خاطرة عن بقاياي ورمادي
مرّ عام أو أكثر منذ
أول تجربة تعرضت فيها لدور النشر وسلّمت أوراقي إلى غريب كل الغربة عن نفسي
وأعطيته "جزءً من عقلي" كما يقولون، وسمحت لشجاعتي بأن تقودني إلى مصير
لم ولن أعلمه إلا إذا أخذت التجربة مسارها. أتذكر جيدًا يوم ذهبت أنا وإنجي أمين
ورانيا أبو زيد إلى ساقية الصاوي لحضور ندوة عبر سكايب كان يحدثنا فيها أحد
القلائل الذين نجوا من كابوس هيروشيما وناجازاكي، والتي ذاب قلبي ذوبانًا في نيران
حربها عندما روى لنا الناجي موت أصدقائه في المدرسة على مقاعدهم والتصاق جلودهم
بالمقاعد إثر القنبلة (لن أستطيع التطرق في هذا الكابوس لأنه يحتاج كتبًا كاملة).
ثم اضطررنا، بعد أن داهمنا الوقت، إلى مغادرة المكان للحاق مقابلتي الشخصية مع
صاحبة دار النشر. ذهبنا إلى المكان بعد أن ضللنا الطريق حوالي ٣ مرات وتأخرنا
حوالي ساعة ونصف؛ ومن يعرفني جيدًا يعرف أنني دقيقة المواعيد إلى حدٍ كبير، فلكم
أنت تتخيلوا ازدياد التوتر مع مرور الوقت. وبعد الوصول الآمن أخيرًا، رفضت أي
منهما الصعود معي للمكان. "هنستناكي تحت ونلفّ في المكان شوية على ما
تخلصي".
لم يطُل الجلوس كثيرًا
وخرجت وتملؤني بلاهة وبرود غريب، من يعرفني جيدًا أيضًا يعلم أنني أعجز عن إبداء
ردود أفعال في مواقف معينة. وكان هذا أحد أشهرها، حتى أنني أتذكر بهجة إنجي
وتعجبها من وجهي الصامت. ثم عاد كلٌ منا إلى منزله وظللت أنا هناك، في ذلك المكان؛
وكيف لا وقد أعطيت الناشر كل ما أملك من أفكار وقوافي وكلمات حفظتها سنين طويلة (
خمس سنوات). ظل على وجهي التعبير ذاته والانفعال، أو بالأحرى اللا إنفعال ذاته،
حتى ذلك اليوم. ذلك اليوم الذي تلقيت فيه اتصالًا يعلمني بأن النسخ المجانية من
"كتابي" جاهزة للاستلام، وهنا تأتي واقعة أخرى، عند طلب صديق عزيز عليّ
الذهاب بنفسه إلى حيث يوجد الكتاب (على الرغم من البُعد الشديد لمكان إقامته عن
الأرض التي تحمل كتابي)، إلا أنه ومع الإلحاح ومع استمتاعي بمشاركة الآخرين سمحت
له بالذهاب ثم مقابلتي بعد يوم العمل لاستلامه منه. ذهب محمد دنيا إلى المكان
واشترى لي (أو للكتاب) كيسًا أنيقًا من الكرتون ليحمل فيه الكتاب. وهنا تأتي ملاحظة
مهمة بالنسبة لي لم يعلمها محمد أبدًا، فقد اشترى كيسًا يحمل لوني المفضل مع أنني
لم أفصح له به أبدًا. وكان قد وعدني قبيلها بألا يلمس الكتاب أو يراه حتى نتقابل،
وهذا ما حدث.
ثم زارني نفس اللا
انفعال مرة أخرى مع رؤية الكتاب، يا ربي .. كتاب؟ كتابي؟ من؟ أنا؟ لحظة غاية في
العمق والانبهار والسحر والصمت الممتلىء بكمّ هائل من الكلام. لحظة بعمر. لحظة لن
يدركها إلا من يكتب.
أكتب هذه الكلمات لأنني
تذكرت هذه اللحظات، ولأن امتناني لكل من ساهم في كلمة من هذا الكتاب لا يزال
يملؤني، وبعد أن خطر ببالي أنه بعد عام من ميلاد هذا الكتاب حدث في شخصيتي تغيرات
غريبة جدًا دفعتني إلى كتابة هذه الكلمات بالعربية وليس بالإنجليزية، تغيرات
دفعتني لأتمنى أمنيتي الثانية: كتاب عربيّ أغير به تفكير ولو ربع شخص عن اللغة..
بالتأكيد ليس أمثالي من سيغيرون اعتقاد قُراء عن اللغة العربية، ولكني أؤمن أن حبي
لها، مجرد حبي لها وسعيي لأن أوزع هذا الحب على كل من قابلته، أؤمن أنه دافع كافي
لاستكمالي هذه الرحلة لكتابة كلمات آمل أن تكون مفيدة روحيًا بقدر إفادتها لغويًا.
وفي هذا السياق يتوجّب عليّ اختيار اللفظ الأدق من "آمل" ألا وهو
"أدعو".
شكرًا لكل من ساهم في
نشر هذا الكتاب وقراءته وكل من شجعني ورأى في شيئًا لم يره غيره (أحمد سعد)
واستطاع أن يلمس في كلماتي شيئًا مما أعجز عن قوله، وشكرًا لكل من كان سببًا في
كتابتي الآن بالعربية (سلمى عبد الوهاب) بعد عناء طويل وخجل رهيب من مشاركة ما
أكتبه (محمد دنيا).
وفي نفسي قبل أي شكرٍ
من هذا.. الحمد لله على نعمة الصحبة الصالحة .. الحمد لله.