Archive for August 2013

فقاعة النفس


on , ,

No comments


فقاعة النفس



لطالما تمنيت أن تكون هالتي مرئية، كنت دائمًا ما أشعر أنها مفترق الطريق بين أفكاري وأفكار الآخرين التي أريد أن أنفصل عنها، فأستعين بهذه الهالة لأعود إلى نفسي، ولأتقوقع داخلي وأنكمش بجلدي إلى الداخل بطريقة ما. ثم قررت في لحظة ما أن أسمّيها "فقاعة النفس"، تلك التي يقفز كلٌ منّا بداخلها وقت حاجته، أو عندما ينهال عليه سيل من الواقع فينزلق بكل ما بداخله فيها، ليحتمي؟ ربما وربما لا -  ربما هو مجرد بيت زجاجي مؤقت لن يدوم طويلًا. 
هذه الفقاعة التي احتملت كمًا مرعبًا لا يُعد من أفكاري حتى تمنيت ورفعت يدي في لحظة ما آملة أن أتخلص منها. تمنيت أن تكون لأفكاري أجساد تكبر وتصغر حسب قوة الفكرة ومدة عنادها داخل رأسي، حتى تنفجر هذه الفقاعة وتتحول إلى جزيئات من الأفكار التي ستتحلل أو تتبخر في الهواء فيما بعد، ويتخلص منها العالم أجمع.
ثم خفت أن تصمد وتعافر فكرة ما وتغوص في عقل شخص آخر، فينقضي بي الحال إلى خوف آخر لا ينتهي. فتمنيت أن أخرج خارج جلدي وخارج نفسي وأترك هذه الفقاعة، أهرب من داخل داخلي، لأرحل إلى أخرى لعلي أجد فيها أفكارًا أكثر هدوءً وأكثر استرخاءً. لعل بها شخصًا يعرف ما أجهله. تمنيت أن أخرج خارج نفسي وأتقمص دورًا لا هوَ لي ولا مني، لأنظر إليّ من مسافة بعيدة وأراني من خارجي كيف أكون، وماذا أكون. تمنيت أن أجد إجابات للعديد من الأسئلة التي تقتلني ولا تتركني: مثلًا كيف يحتلّني صمتٌ مخيف في أشد الأوقات حاجة للكلام، وكيف تعذبني كلمات دائمًا ما تخرج على غير موعد. كيف تحدثُني ولا أتمكن أن أعطيك كلمة أو أرفع شفة من على الأخرى لأنطق بكلمة واحدة، فقط أبتسم ويغرقني صمتٌ غير مفهوم. تمنيت أن أعرف كيف تراني وكيف يراني من يظنّ أنني من شدة الإخلاص أكاد أغيّر العالم، وكيف لا يدركون أن العكس هو الصحيح، وأنني محيط يصب فيه العالم تغييرًا يوميًا دون أن يراه أحد. تمنيّت أيضًا أن أكون أنت وأترك لك كلمات قد لا أتفوّه بها وأنا بداخل فقاعتي ونفسي، ثم أهرب إلى حيث أشاء وقد ارتاحت شفتاي اللتان تحملتا الكثير من الكلمات وراءهما.
تمنيّت أن أخرج من داخلي وأن أحطّم أسواري وأصارع مخاوفي وأحرر كلماتي.
تمنيّت ألا تكون لي فقاعة، تمنيّت ألا أكون.. تمنيّت ..




حنين


on , ,

No comments

حنين


أحنّ إلى القليل من الحنين في كلمات وعبارات ماتت منذ زمن، وفي زمن لم تعد تصلح له الكلمات والتعازي والتهنئات، لم تعد تنفع له جميع الأوصاف، قبل أن تنتحر وتتلاشى الكلمات من قواميسنا. أحن إلى قلم وورقة أقترب منهما دون أن تنهال عليّ موجة وصفعة من آلام الرأس والصداع الذي لا ينتهي إلا بانتهائي من آخر كلمة أو بفقداني الأمل وانسحابي التام من كلماتي ومن نفسي ومن قلمي. أشتاق كل الاشتياق لخيط من خيوط شمس الصباح الذي يتخلل نافذتي دون أي إذن مني وبرغم هذا أستقبله بتفاؤل لا أعلم من أين يأتي. أحنّ إلى كلمات تأتي بعواصف في جسدي وروحي، إلى درويش ومطر ودنقل وجويدة والرافعي، إلى كل من لمست كلماته قلبي بشيء من الرقة والعذوبة التي لم أرِد أن تنتهي أبدًا. آه كم أحن إلى عبارة واحدة من عبارات الرافعي كـ" أيتها الحقيقة لا يظفر بكِ إلا سعداء الفطرة ، وما الطبيعة كلها إلا إيمان بك ودليل عليك". كلمات ربما لن تهُز البشرية يومًا كما هزّتني لحظة قراءتها. أحن إلى حنين درويش في:
"أحنّ إلى خبز أمي                        
و قهوة أمي
و لمسة أمي
و تكبر في الطفولة
يوما على صدر يوم
و أعشق عمري لأني
إذا متّ،
أخجل من دمع أمي!"
ربما في يومٍ ما، ربما، ستهتز البشرية والإنسانية بعبارات مثل عبارات الرافعي وبجدارية قريبة من جدارية درويش وتعتزم ألا تصالح ظالمًا أيًا كان على نهج دنقل.. ربما لست أدري، أقصد مؤكد أنني لست أدري ما تخبؤه لنا عقارب الساعة التي نكاد لا نشعر بصوتها. عجيب أن أكثر الأشياء التي لا تشعر بوجودها هي نفسها الأشياء التي تحتاجها أمس الحاجة إذا فُقدت دون أن تدري. أنانية إنسانية.
أتوق إلى ابتسامة عفوية من غريب من غرباء الشارع في صباح من صباحات العمل المتكدسة والمنشغلة حين يكون الناس في رحلة واحدة وبهدف واحد ونفس واحدة. إنها وحدة الروح، بدون أي آلام تُحكى دون ضحكات. غريب هو شعبنا الذي يضحك ضحكات هستيرية على أكثر الحكايات بؤسًا؛ ولكن من يدري ألا يمكن أن يكون الضحك هو السلاح الأمثل لمنع الإجهاش بالبكاء في لحظة صدق؟
صدّقني يا من تقرأ كلماتي أننا أُناس نعلم كيف نتغلب على صعوباتنا وآلامنا مع الغرباء، ولكننا لا نعلم كيف نواجهها مع الأقرباء لنا، والأصعب من ذلك.. من منّا استطاع بجرأته أن يتغلب على آلامه أمام نفسه؟ من منّا ضحك لنفسه ساعة كان يحكي لها على آلامه؟ كلنا جربنا هذه التجربة في الشوارع العمومية وأخذ المارة يحملقون فينا كأننا فقدنا عقولنا، ثم خفنا ولم نعد نتحدث لأنفسنا حتى تناسينا آلامنا، ولكنها ستظل هناك. ستظل حتى نقدر على عجزنا ونتمكن من السير في شوارع مدينتنا كالمجانين، ولكن فرحين.. أليس المجانين في نعيم؟

تخبُّط


on , , , ,

No comments


تخبُّط


يوقظني حلم غريب أشبه إلى الكابوس فأتذكر أنني أمضيت ليلة البارحة أتابع النشرات الإخبارية الكاذبة المثيرة للغثيان. أسحب ستائر غرفتي في هدوء شديد حتى لا تتخلل أشعة الشمس في عيني، خوفًا من أن أرى النور وأنا لست على أتم استعداد لمواجهته، جُبن أو هرب، لا أدري. أفتح نافذتي ثم أغلقها، لا أريد أصواتًا من الخارج، يكفيني أصوات داخلية تعذبني حتى في منامي. أشرب القهوة ثم أُدرك أنني قررت أن أعتزل الطعام اليوم، ولكني أرتشفها في جرعة واحدة على أية حال وأقرر أن أستكمل اليوم بدون طعام. فمن يريد طعامًا في هذه البلدة التي تخلو من الألوان؟ أقرأ الرواية التي تركتها وحيدة بالأمس بدون أن أستكمل ما فعله البطل بعد سلسلة الأفكار التي أوشكت على هلاكه. أفتح الصفحة المليئة بأفكاره في كتاب مليء بأفكار الكاتب وأنا غارقة في محيط من أفكاري أنا. آه، ياليت لنا رصيد محدود من الأفكار في حياتنا حتى لا نغرق في أفكار غيرنا وأفكارنا وأفكار شخصيات ليست حتى بالحقيقية.
أُغلق الرواية وأقرر أن أغرق في بحر آخر من الأفكار أمام غلافها الخارجي، كيف استطاع مصور الغلاف تصوير هذا المنظر الذي يبعث للمتأمل شعورين متناقضين غير مفهومين، شعور بالإحباط والاكتئاب والذُل وشعور بالأمل والحياة والفرح.. كيف استطاع أن يجمع متناقضات الحياة، بل أن يجمع الحياة كلها في ورقة سميكة من الكرتون الذي يمكن أن يتلف بسهولة. ولكن ما يدريني أنا ولماذا أعبأ بهذه الترهات والسخافات، إنه مجرد غلاف لرواية بائسة حزينة تبعث الاكتئاب أكثر من بعثها للحياة على أية حال.
أستلقي. أنظر إلى سقف غرفتي، غريب كم ينظر كل منا إلى سقف غرفته ويستوحي  له بأفكار لا يستوحيها مكان آخر، غريب ما يفعله مجرد سقف لا شكل ولا زينة له. أغمض عينيّ وأتخيل اللا وجود، اللا كينونة، اللا شيء. أتخيل الفراغ والعدم وأتخيلني لست هنا.. لحظة رهيبة من "الانفصال عن الواقع" أو "اللا إدراك" بالمعنى الحرفي. شعور سحري ومليء بالتخبط في نفس الوقت، قد يُحدثك من حولك وأنت غير واعٍ بأنهم هنا، أو بأنك هنا، ينتابك شعور بأنك في مكان آخر وأنهم ليسوا حقيقيين وليسوا في عالمك وإنما هم غرباء، دخلاء، على أفكارك.
أبدأ في كتابة شيء ما عن هذا التردد الذي يُغرقني وعن هذا العالم الذي يملأني بالكلمات المتخبطة التي أكتبها ثم لا أفهمها ثم يفهمها غيري وأتعجب مما يقولونه وكأنهم يتحدثون عن شخص آخر كتب هذه الكلمات. أكتب وأحاول ألا أترك الخيار الأخير لي لأتنفس نوعًا من الصعداء، قليلًا من الصعداء. القليل.
ثم أتوقف .. 


ألوان النفس الإنسانية


on , , , , ,

No comments


ألوان النفس الإنسانية



من السهل أن تسأل الآخرين "هل صُدمت في من تعرفهم من قبل؟"، من السهل أن تجد الإجابة بالإيماء أو بنعم قبل أن يتسنى لهم أن يفكروا بقدر ضئيل، فالصدمات الخارجية سهلة التذكر ويسهل علينا أن نتحدث عنها بكل استفاضة، وإن كان منها ما يستحضر  ألمًا نفسيًا رهيبًا، ومع هذا كله فهي سهلة التذكر، واحدة منها على الأقل.
إنما السؤال الآخر المرعب هو: كم مرة صُدمت وأُحبِطت من نفسك؟ كم مرة أردت من نفسك شيئُا فلَم تُطِعك فيما تمنيت ولم تعبأ بما في عقلك من أحلام ومن أوامر. أتذكر كتاب "الضوء الأزرق" لحسين البرغوثي، والذي حدث في لحظة لا أعلم متى كانت، أن انضم إلى قائمة الكتب المحببة إلى قلبي حبًا جنونيًا. يصف حسين النفس في كتابه فيقول: " تعتقد طائفة الصوفية ( النقشبندية ) أن في الإنسان عدة أنفُس ، و لكل نفس هالة و ضوء خاص بها. الأزرق لون النفس الأماره بالسوء، أما الأحمر فهو لون النفس الملهمة و الأبيض لون النفس المطمئنة و الأخضر لون النفس الراضية و الأسود لون المرضية ( أرضاها الله ) أما الأصفر فلون النفس اللوامة ." أذهلتني الفكرة..للنفس ألوان؟ وصف عبقري للتعبير عن خبايا النفس، إذ أن الألوان كالثورة، منها ما يهدأ ومنها ما يثور على مراحل (في هذه الحالة درجات) ليفاجئنا بعاصفة وثورة داخلية لا يدري بها أحد، وقد يجهلها الـ"مُثار" عليه أيضًا.
ثم إن هذه الكلمات تدفعني للتفكير، يا ترى أي نفس تغلب عليّ؟ هل هي النفس الزرقاء؟ ولمَ لا؟ فكُل منّا له نفسه الأمارة بالسوء والتي يتصارع معها ليل نهار؟ ولكن من يهزِم ومن يُهزم في النهاية؟ من يثور ومن يصمد ومن يتحمل ومن يُثابر ويعافر؟ في هذه الحال تكون العبرة في المعركة بنفس قدر عبرة النهاية. من يأتي على عجل ومن يأتي متكاسلًا متثاقلًا كمن تسحبه قدماه من نوم عميق؟ من يأتي على الموعد.
ثُم أتذكر عبقرية من عبقريات درويش..
"فكمّ من مرة
جئتُ إلى نفسي على الموعد
لكن.. لم أجِدني!"
إن أردت أن أعطي لنفسي لونًا، فقد أعطيها اللون البنفسجي، فهو قد يرمز إلى الغرور والقسوة. الغرور لأنها لا تأتي على الموعد والقسوة لأنها تتلذذ بمشاهدة صدماتي المتكررة والمتتالية دون توقف ودون إرهاق ودون كلل أو ملل.
ولكن ألا يمكن أن تكون أنفسنا عبارة عن قوس قزح؟ إذ أنها ليست دائمة القسوة والغرور أو التكبر؟ لا لا، فألوان قوس القزح مشرقة، فلنقل.. لونًا واحدًا متدرجًا؟ كلما ازدادت حدّته (أي مالت درجته إلى الداكن) كلّما ازداد الوهن والألم؟ أي أن النفس هي التي تغلب وأنت تُغلب؟ ألا يمكننا أن ننظر إلى المعركة بهذه الطريقة حتى نتغلب بطريقة ما على درجات من هذا اللون لتظل لنا الدرجة الأفتح فالأفتح حتى نصل إلى الأبيض لننال صفاء النفس الإنسانية ونستحق لقب "إنسان"؟ فلنجرّب.



خطوات النسيان


on , ,

No comments

خطوات النسيان


تعريف التناسي: هو التظاهر بالنسيان وخداع العقل به، ولكنه أبعد ما يكون من النسيان. إنما هو محاولة بائسة لاسترداد فرح مفقود أو حياة قديمة أو ماضٍ زال ولن يعود ولو بكينا عليه دهرًا. في الحقيقة إن لفظ "التناسي" لفظٌ عبقري لا يوجد له نظير في أي من اللغات الأجنبية التي درستها، أو على الأقل من معرفتي. كلمة دقيقة جدًا تُعبّر عن حالة حرب داخلية مميتة بين العقل والقلب، بين الجانب العاطفي والآخر الحكيم من الجسد. كلمة من مرادفاتها "الكذب على النفس" و"التظاهر بعيش أحسن حالة من الفرح". تخيّل أن هذه الكلمة فقط تعني حربًا داخلية "عالمية"، إذ أنها في نفس كل بشريّ مرّ بحزن ما أو وجع لا يُنسى. ومن منّا لم يحزن أبدًا قبل أن يتناسى ثم ينسى. ثم إذا أمعنت التفكير والتأمل في هذه المسألة فإنك سترى أن التناسي يأتي قبل النسيان، لأن التناسي إرادة داخلية من شخصك، أما النسيان فهو إما بالتعوُد على زوال هذا الشيء - إن جاز التعبير - أو بالنضوج شيئًا فشيئًا مع الوقت. وبالتالي فنحن لا نختار من ننسى ولكن - والحمد لله - لنا حرية اختيار من "نتناسى". شعور بالذاتية والاستقلالية وإن كان اختيارًا مؤلمًا في كثير من الأحيان. ثم إننا "إنسان" من النسيان، ولذا فإن النسيان آت لا محال في مرحلة ما، ولكن المرحلة السابقة له ما هي إلا مواساة لضعفنا الداخلي ورِقة قلوبنا. ليتني أجدُ مرادفًا لهذه الكلمة بلغة أخرى، ولكن حتى وإن وجدت؛ فستظل كلمة "التناسي" العربية هي كلمتي المفضلة بدون أي ترجمة أو تحريف أو مترادف غير دقيق. فهي أدق ما يمكن أن يكون ليصف هذه الحالة. عبقرية!