Archive for May 2014

وصية الفقد


on , ,

No comments

وصية الفقد
(الوصية الأخيرة)


ولدي الحبيب،
ليست هذه وصية الفقد لأنها الأخيرة، ولكن لأن البكاء هو قمة كل الأحزان وبعدها تستقرّ جميعها في مكانٍ ما في قلبك، بهدوء لم ترَهُ قبل هذا الانهيار. لن تنسى ولكنك ستتناسى لأن الحياة، وكما ستسمع منهم كثيرًا، تمضي وستمضي ولن تنتظرك حتى تُنهي حدادك على من فقدت وتفقد.
ليس شرطًا وجود أشخاص مع ذكر كلمة الفقد، فهناك من يفقد  شيئًا بداخله، هناك من يفقد روحه ولا يعثر عليها مجددًا. هناك من يفقد فنًا انزلق من أصابعه دون أن يشعر وتحولت حياته إلى مجرد دقات عقارب ساعة تمضي ليحيا دون ألوان ولا موسيقى، كفيلم داخل كاميرا قديمة مشوشة يكاد يُسمع فيها صوت الممثلون.
الفقد رغم آلامه يحيي فينا شيئًا ما. تتضارب الكلمات وتتناقض ولكن الزمن يثبت أن التناقض هو جزءٌ من الحياة، وجزءٌ منّا.

*****

"ثم، من قال إن عدم البكاء رجولة؟"
ستسمع يا ولدي من يسخر من رجالٍ يبكون. ستسمع من يستهزئ برجلٍ بكى لفقده شيء كان عزيزًا عليه، لشعوره بلحظة وهن وضعف شديدين لم يتحمّل فيها جموده المعتاد وإذا بالدموع تتساقط على خدّيه، وإذا به يجهش بالبكاء كالطفل الذي لم يعثر على أمه وسط طريق مُعبّد بالبشر. وإذا به يتوارى عن الأنظار مخافة أن يتّهمه الآخرون بالضعف وقلة الحيلة والاستسلام للدموع كطفل أو كامرأة. سيتساقط التماسك والقوة والشجاعة ويستقر كلُ شيء عند شفتيه ليبتلعهم وينسى أنه احتمل هذا كله طيلة حياته وجاءت لحظة انهيار الجبل الجليدي، وقتئذٍ فقط لن يوقفهُ أحد رغم كل الاستهزاءات والضحكات المكتومة.
دعهم يستهزءون يا ولدي. دعهم يسخرون من رجلٍ اختار أن يكسر مقولة كاذبة تدّعي أن عدم البكاء رجولة وقوة، أن الرجولة إن استسلمت لدموع الفقد انسحبت من جسد الرجل.
ابكِ على صدر من تُحب. ابكِ حتى تنهار كل قواك وينزلق كل ما أحسست به في يومٍ من الأيام، ليستقر عند صدر من تحب، ليحفظهُ لك عنده حتى تعود كما كنت من قبل. ابكِ حتى تعجز عن الحديث وعن النوم من كثرة الآلام ومن فرط الإرهاق في عينيك. اجزع ولا تخف من اتهامات وادّعاءات لن تفيدك فيمن فقدت وفيما فقدت. ابكِ حتى تجفّ عيناك وتبتلع شفتاك كل شعورٍ شعرت به مذ نفخ ربي وربك فيك من روحه.
لا بأس إن لم تمتلك نفسك بعدما ضاقت عليك الأرض بما رحبت. لا بأس في شيءٍ من السقوط، أو في جبلٍ من الحزن حتى تعود من جديد. حتى تعود بعد موتي من جديد.
فسأفقدك وتفقدني، ولكن الملتقى ليس ببعيد.

ابكِ يا ولدي.

وصية الحزن


on , , ,

3 comments


وصية الحزن


ولدي،
يومًا ما، وبدون سابق إنذار، ستحزن يا ولدي. ستحزن وستعجز عن الحديث عن سبب حزنك، وستعجز عن معرفة سبب حزنك أحيانًا كثيرة. سيظن الناس منك غرورًا أو غطرسة أو تكبُّر. دعهم يا ولدي، فالناس يتحدثون، وسيتحدثون إن قلت أم لم تتفوه بكلمة.
ستحزن لأيام، ربما لساعات فقط، وربما يمتدّ الحزن لليالٍ لا تنتهي فتنسى أنك حزين أو تتناسى فتنسى ثم تغضب وتتراكم داخلك الكلمات فتمتلئ بالجهل بأن السبب الأول لكل هذا يا ولدي هو حزنك.
ستتجاهله أحيانًا، ثم سيصحبك أحيانًا أخرى مطالبًا إياك بالجلوس معه والحديث عن طريقة تُحرركما معًا، أو تُطلقكما إلى مكانٍ آخر بعيد، كلٌ على حِده. اجلس يا ولدي وكأنك تخاطب شخصًا يحمل حنقًا لا متناهيًا تجاهك. اجلس وتحدث وتشاجر مع حزنك. ارهقه ودعهُ يرهقك. استنزفه بل واطلق له العنان لاستنزافك وابتلاعك. دعه يكسر كل فكرة من أفكارك بل ويمزقها قطعًا صغيرة فيضطرك إلى تجميع أفكارك المبعثرة، على الأرض التي ستمتلئ بالحزن، وإصلاحها مرة أخرى كما لو كانت قطعًا لصورة ما أو أحجية لن تبدو كما هي مع خطأٍ واحد فقط.
إياك أن تستسلم للمعركة أو تدفن حزنك في مكانٍ ما مع شخصٍ ما حتى وإن كان هذا الشخص صندوق تلقمه أسرارك وتنسى ما تحكيه له من فرط ثقتك.
احزن يا ولدي. احزن بأشد ما استطعت من الصخب ولا تترك هدوءً داخلك يدفعك للجنون قبل أن تستنزف كل ما بداخلك وتمتلئ بيقينٍ فيما بعد بعودتك إلى نفسك، عُد إلى هدوئك المعبأ بالطمأنينة. اسكن داخلك في سكون شديد.
ثم ربِّت على كتفيك وأنت مغمض العينين. وابتسم ابتسامة أخيرة.
ثم..


"افرح بأقصى ما استطعت من الهدوء، لأن موتًا طائشًا ضلّ الطريق إليكْ" 

وصية الهرب


on , ,

No comments

وصية الهرب


ولدي،
قد تتعجب من كتابتي لهذي الوصايا، واحدة تلو الأخرى بأسلوب فيه من الإسهاب ما قد يملأك بالضجر والملل. ولكن الكلمات تُنسى والأفعال تُنسى وحتى الوعود تُنسى وتقتلعها الحياة من جذورها.
أريد منك يا ولدي أن تهرب كلما عجزت روحك عن التعايش مع كآبة الدنيا، اهرب من كل شيء في شيء واحد. اهرب من الحزن والبغض وخيبة الأمل والخذلان. اهرب من الأفكار المخيفة والأحلام المؤرقة. اهرب من نفسك.
اهرب إلى كاتبك المفضل، إلى كتابك المفضل، إلى كلماتٍ لم تستطع كتابتها فكتبها لك شخصٌ آخر في مكانٍ آخر في هذا العالم. شخص قد لا تجمعك به الأقدار وقد لا تعرفه معرفة شخصية طالما حييت ولكن تربطك به صداقة افتراضية غريبة داخل كلماته وعباراته التي عرف بها أن يتقرب إليك بشكلٍ لم يتمكن منه أحد.
اقرأ الكلمات بعناية، واقرأ الصفحات بتأنٍ شديد كما لو كنت تتحدث مع نفسك لحلّ مشكلة ما. اقرأ يا ولدي حتى تنسى كما ينسى السكير أحزانه بالخمر. قرّب الكتاب من وجهك واسمح لنفسك بتنفس رائحة صفحاته التي لن يتمتع بعبيرها إلا من يغرق في الكلمات ويستمتع بهذا الإحساس بالابتلاع السحيق. اسمح للكتب أن تبتلعك لتدخل في كلماتها وتتقمص الشخصيات داخلها وتنسى من أنت أو تتناسى فتنسى كينونتك وأي وجهة أنت موليها.
عش شخصيتك المفضلة من رواية قريبة إلى قلبك، عشها في واقعك، خذ شيئًا من الخيال وافرضه على الواقع حتى يهيأ للعالم من حولك أنها شخصية حقيقية مدفونة في مكانٍ ما وقد قررتَ أنت إعادة إحيائها من تلقاء نفسك. اخدع الناس الخداع الجميل الذي ينسيهم الواقع أو يشتّتهم بين واقعٍ كئيب وخيال ساحر فيختاروا الخيال علّه يصبح واقعًا ينسيهم حزنًا ما أو يأخذ بأيديهم هربًا من عاصفة ما.
ثم انثر كلمات الكتاب في الاتجاهات الأربعة لترى كلماتٍ وصفحات في شرقك مع طلوع الشمس وترى فصلًا آخر من الرواية مع غروبها، ثم وأنت تسير في الطرقات التي لا تعرفها لتخفف من وطئة الغربة وتكون لك صاحبًا لا يملّ من أحاديثك اليومية.
اهرب يا ولدي من كلماتك إلى كلمات غيرك، فهي أفضل وسيلة للتخفيف عن هموم الدنيا، ولكن القلة، مع الأسف، يدركون هذا. فدعهم يستهزئون. دعهم يضحكون مما تعيش فيه من خيالات. ثم اتركهم في حيرة من واقع كئيب لا هروب منه.
فستضحك ويبكون.

ثم تقرأ مجددًا.

وصية الغرق


on , , , ,

No comments

وصية الغرق


ولدي،
أريدك يا ولدي أن تغرق في هذه الدنيا بالمعنى الذي يحسدك عليه من هو على السطح لا تستطيع قدماه لمس القاع ويعجز عن التقوقع للمس حافته بأي وجه من الوجوه. أريدك أن تغرق في أفكارك، تغرق في ألوانك، تغرق في الهواء المحيط بك. تنفس يا ولدي بأقصى ما تستطيع حتى وإن لم تعطِك المدينة الموحشة الهواء النقي الذي تستحقه. تنفس حتى تعجز رئتاك عن تحمل المزيد من الهواء، ثم تنهّد تنهيدة من لم تسعفه روحه بالبوح عن أسرار نفسه وأسرار الدنيا داخله لإنسان، أَخرِج أسرارك للدنيا لتمتزج مع أسرار الآخرين في الهواء المحيط بك، فتعطيك إحساسًا بنوعٍ غريب من الأمنة والسكينة.
اغرق في أفكارك التي ستصيبك بالجنون إذا تركتها شريدة، اغرق ولا تسحبها معك مرة أخرى. اتركها حيث غرقتَ معها. فكرة تلو فكرة. واحدة وراء الأخرى. ولكن لا تُزهِق روحك بالإفراط في التفكير فتعجز عن التخلص منها وتتوه في متاهات لا متناهية تخنقك وتسحقك فتموت عالقًا في فكرة غير مستحقة.
اغرق يا ولدي في ألوان الحياة بدرجاتها المختلفة. اغرق في اليوم الواحد في لونٍ واحد بجميع درجاته، حتى تصبح في الصباح بلون بهجة وفي المساء بأقصى درجات اللون سوادًا وقتامة. حتى تصبح يا ولدي شقيق الجنون أو ما يُشتقّ من الجنون. عِش في الألوان وكأنها تُشكّل أيامك منذ أن تستيقظ في الصباح الباكر مع ندى الفجر حتى تغفو على سطح بيتك وأنت تشاهد النجوم والشُهُب. تنفّسها. اكتب بها أو ارسمها. اخترع ألوانًا جديدة لم يرها إنسان وبعثِر  درجاتها في الهواء المحيط حتى يشعر بها من لا يرى الألوان من أعمى البصر وأعمى الجمال. فأكفَّاء الجمال كُثُر يا ولدي. هم لا يرون الدنيا كما تراها. التمس لهم العذر أيضًا لأنهم لم يصلوا إلى القاع الذي استطعت أنت الوصول إليه.
التمس لأكفَّاء الحياة أيضًا عذرًا، فهم يعيشون بين جمال وجمال ولا يرون إلا القُبح الذي قد يعكس ما في روحهم ما عجزت المرايا عن عكسه. التمس للموتى داخل أفكارهم عذرًا مضاعفًا لأنهم يا ولدي ضعيفون من الداخل أكثر منك ومنّي ومن أي مخلوقٍ آخر.
التمس العذر لكل من هم حولك، ولكن إياك إياك يا ولدي أن يعجبك موقعهم وتلبث في قمة ترى فيها جميع من تلقى وتنسى أن تغرق في الأعماق. وتنسى الألوان المجنونة والأفكار المختلفة والكلمات الممتلئة.

حذارِ يا ولدي ألا تغرق.



هذه الوصايا مستوحاة من رواية "سوناتا لأشباح القدس" للكاتب الجزائري واسيني الأعرج.

وصية العجز


on , ,

No comments

وصية العجز


ولدي،
أَعلمُ أن الدنيا لم تعطِني حبًا بعد لأُفرغ فيه كينونتي وآتي بك إلى هذه الدنيا ولكنني أردت أن أكتب لك ما قد أعجز عن كتابته والبوح لك به عندما نلتقي للوهلة الأولى ونكبر سويًا ونحن لا نشعر.
اعلم يا ولدي أن حمول هذه الدنيا على كتفيك ستكون أحيانًا خفيفة الظل رشيقة تكاد لا تشعر بها، وأن الكلمات والعبارات والعواطف ستساعدك أحيانًا كثيرة حينما تكون في حاجة إليها
اعلم أنها ستفي بوعدها كما أوفت بوعدها من قبل، ولكن اعلم أيضًا يا ولدي أن الوفاء بالوعد لا يستمر للأبدية، وأن سلسلة المشاق والمتاعب هنا لن تكون دائمًا على نفس النهج بحيث تجد ما تريد البوح به في كلمات بسيطة أو عبارات خفيفة ذات معنى. ليس هذا ما يحدث مع الزمن وما يسلبه منّا ومع اختلاف الكلمات وعمقها من فينة إلى أخرى.
ستأتي عليك يا ولدي أيامٌ لن تفهم فيها عجزك عن النطق أو التعبير بشيء من العاطفة والحنوّ. ستجد الكلمات تخدلك والعبارات تهرب منك مخافة أن تضعها في مكانها الخاطئ، ستجد أن الخذلان تزداد حدّته يومًا بعد يومٍ من كلماتك مرة ومن من هم حولك مرة أخرى.
أرجوك ألا تجزع ولا تفزع، فهي سنة النضوج.. لن يسعفك ما بداخلك كما كان من قبل.
أوصيك يا ولدي في هذه الأوقات بلمس مفاتيح بيانو مغلق والعزف عليه برفق في لحظات حزنك أو بغضب في لحظات فقدانك لعقلانيتك. أريدك أن تترك مفاتيحه تتفوّه لك بكل ما عجزت عن البوح به أو التعبير عنه، ستجد الكلمات تتناثر بين يديك وتطير بخفة ورشاقة أمام عينيك لتعطيك ما لم يعطه لك أحد. دع الآلة تنطق بما عجز البشر عن النطق به وستجد فيها وفاءً لكل الوعود التي جزعت منها وآلمتك حتى الصمت الموحش.
أوصيك بألا تتركها بلا عودة. اترك الغبار والتراب ينهالان عليها إذا لم تحتاجها ولكن عُد لها في وقتٍ ما. وعُد لها في وقت فرح قبل وقت حزن وعجز ، حتى لا تعذّبها بكلماتك الكئيبة الحزينة فقط. بُح لها بكل ما تستطيع من فرح وحزن وألم وتحمس واشتياق وجنون وحب ولهفة. احكِ لها عنك وعنّي وعنّا معًا وعن الدنيا وعن الأحبة والذين فارقوك وعن كل ما يجول بخاطرك. لا تتردد.
فالتردد يا ولدي يأتي لتنهار معه كل نغمة رقيقة عزفتها يداك. اعزف يا ولدي بلا توقف وتذكر، ليس كل ما يبعث الطمأنينة يتنفس كالبشر. تنفّس أنت كبيانو ودع البشر يتنفسون للعيش لا أكثر.


تيه


on , ,

No comments

تيه

بُحتُ لكَ بما لم أبُح بهِ لنفسي من قبل، فوجدتُ في ما لم أجده ولا أرهُ أبدًا، وكأنني عشت طوال هذا العمر في جسد لا هو لي ولا منّي، وكأنني المنفيّ في جسدٍ لم أعرفه من قبل. ثم رأيت على وجهك تعبيراتٍ غريبة عليّ وكأن ما بداخلي قد أعطى انعكاسه على وجهك وشفتيك اللتان قد ضممتهما فوق بعضٍ ورفضتَ الحديث عنّي، عن تلك التي رأيتها بداخلي ولم أرها أنا بنفسي.
ثم تساءلتُ وسألتُ نفسي ثم سألتُك "هل يُعقل أن تبوح لأحدٍ بأمور لم تكن أنت تعلمها وهي بداخلك؟ هل لك أن تنظر إلى شخصٍ فتعلم في حينها أنك ستتفوّه بعبارات ومعانٍ لم تعملها في نفسك من قبل؟"
ثم آملُ ألا تجيبني إجابة فيها كلمة "حب" إذ إني سئمتُ ابتذال  الكلمة. أنتظر إجابة تُعجِزني عن الحديث فلا يوجد ما أبوح لك به وما أبوح به لنفسي.
ولكنني لا أجِدُ منكَ إلا الصمت السحيق، الصمت الأبديّ الذي يحرقني ويسحقني من الداخل فأرى وجهك يتغيّر فيه التعبير من ألم إلى أنين إلى انهيار في لمح البصر.
فأرحل وأمضي، علّني أجد غير الصمت المفجع. علّني أعالج صمتي بصمت الآخرين. يومًا ما.


رسالة إلى مـ


on , ,

No comments

رسالة إلى مـ

عزيزي مـ..
أكتب لك بكلمات مرتجفة خالية من السكينة والطمأنينة. تقاذفتنا الأيام حتى وصلت بنا إلى حافة الهاوية ثم تركتنا معلقين هناك، بين المكان واللامكان. ونهضت هي لتعيد كرّتها في غيرنا منتظرة منّا اعتياد هذه البينيّة أو اللاكينونة.
اعتدتُ يا صديقي أن أعيش تحت أسقفٍ بلا رحمة، تهددنا بالانهيار بين الفينة والأخرى، وكأن لي بيتًا من ورق مقوّى أو من الدومينو التي تقع جميعها حالما تقع واحدة منها. اعتدت أن أغطّ في سبات عميق ولكن بنفس هذه المآسي ووجدت نفس هذه الكلمات المرتجفة أو شبيهتها في حلم من الأحلام، إن لم تكن في جميعها. ثم يحدث أن أستيقظ فأرى الحلم في الحقيقة فأفقد الإحساس بأنني كنت نائمًا في المقام الأول.
أريد أن أحكي لك عن الوطن، أو عن اللاوطن، عن مساحة من الأرض وُلدتَ فيها وأمضيت طفولتك في شوارعها وأحيائها ظانًّا منك أن الطمأنينة تعتريها وأن الأهل يحمونها وتحميهم، أن شوارعها تحتضنك بحنان الأم التي مات أطفالها فتبنّت جميع أطفال الشارع. أريد أن أخبرك عن سماء لم تنعم بالصفاء ولو لليلة واحدة منذ رأيت نورها، فقد ظلت دائمًا مليئة بالحزن وبالفراغ السحيق وخالية من النجوم والنيازك والشهب. وحيدة شريدة تبحث لنفسها عن مفرّ من هذه الأرض الشريدة، من هذا الوطن الجريح الذليل. تبحث عن مخرج ما.
الفرق بيننا يا صديقي بيتٌ من ورق وخيمة من قماش، تعددت المسميات والمعنى واحد، والشعور واحد، والأسى واحد.
يحسدنا من له وطن نفاه أو من ليس له وطن، ولكن الوطن بذاته منفى أحيانًا، ووجودك فيه هو أقصى درجات "اللاوطن" وأقصى حالات النفي، يقولون لك مواطن ولكنك لست إلا منفيّ يلبسونه قناع المواطن ويرغمونه على تصديق الكذبة التي اخترعوها، وأحيانًا تكون أنت من اخترعها وصدّقها كي ينسى، أو كي لا يفكر مرتين
لا فرق بيننا يا صديقي، الأرض تنفينا جسديًا أو نفسيًا، فلا تأسى ولا تترك الأمل يتبدد وينهار داخلك فتخور قواك في لمح البصر. اترك المسميات واستمع إلى كلماتٍ قد تشعرك في يومٍ ما أن انعدام الوطن أهون من نفيه لك بدون ذنب اقترفته غير أنك تنفست من هوائه واستلقيت على ترابه وستموت تحته.
لعل هذه الرسائل ومثلها من غيري تعطيك شيئًا من الصبر.


                                                                                                                  ألقاك في وطنٍ قد نصنعه معًا يومًا.