وصية الغرق
ولدي،
أريدك يا ولدي أن تغرق في هذه الدنيا
بالمعنى الذي يحسدك عليه من هو على السطح لا تستطيع قدماه لمس القاع ويعجز عن
التقوقع للمس حافته بأي وجه من الوجوه. أريدك أن تغرق في أفكارك، تغرق في ألوانك،
تغرق في الهواء المحيط بك. تنفس يا ولدي بأقصى ما تستطيع حتى وإن لم تعطِك المدينة
الموحشة الهواء النقي الذي تستحقه. تنفس حتى تعجز رئتاك عن تحمل المزيد من الهواء،
ثم تنهّد تنهيدة من لم تسعفه روحه بالبوح عن أسرار نفسه وأسرار الدنيا داخله
لإنسان، أَخرِج أسرارك للدنيا لتمتزج مع أسرار الآخرين في الهواء المحيط بك،
فتعطيك إحساسًا بنوعٍ غريب من الأمنة والسكينة.
اغرق في أفكارك التي ستصيبك بالجنون
إذا تركتها شريدة، اغرق ولا تسحبها معك مرة أخرى. اتركها حيث غرقتَ معها. فكرة تلو
فكرة. واحدة وراء الأخرى. ولكن لا تُزهِق روحك بالإفراط في التفكير فتعجز عن
التخلص منها وتتوه في متاهات لا متناهية تخنقك وتسحقك فتموت عالقًا في فكرة غير
مستحقة.
اغرق يا ولدي في ألوان الحياة بدرجاتها
المختلفة. اغرق في اليوم الواحد في لونٍ واحد بجميع درجاته، حتى تصبح في الصباح
بلون بهجة وفي المساء بأقصى درجات اللون سوادًا وقتامة. حتى تصبح يا ولدي شقيق
الجنون أو ما يُشتقّ من الجنون. عِش في الألوان وكأنها تُشكّل أيامك منذ أن تستيقظ
في الصباح الباكر مع ندى الفجر حتى تغفو على سطح بيتك وأنت تشاهد النجوم والشُهُب.
تنفّسها. اكتب بها أو ارسمها. اخترع ألوانًا جديدة لم يرها إنسان وبعثِر درجاتها في الهواء المحيط حتى يشعر بها من لا
يرى الألوان من أعمى البصر وأعمى الجمال. فأكفَّاء الجمال كُثُر يا ولدي. هم لا
يرون الدنيا كما تراها. التمس لهم العذر أيضًا لأنهم لم يصلوا إلى القاع الذي
استطعت أنت الوصول إليه.
التمس لأكفَّاء الحياة أيضًا عذرًا،
فهم يعيشون بين جمال وجمال ولا يرون إلا القُبح الذي قد يعكس ما في روحهم ما عجزت
المرايا عن عكسه. التمس للموتى داخل أفكارهم عذرًا مضاعفًا لأنهم يا ولدي ضعيفون
من الداخل أكثر منك ومنّي ومن أي مخلوقٍ آخر.
التمس العذر لكل من هم حولك، ولكن إياك
إياك يا ولدي أن يعجبك موقعهم وتلبث في قمة ترى فيها جميع من تلقى وتنسى أن
تغرق في الأعماق. وتنسى الألوان المجنونة والأفكار المختلفة والكلمات الممتلئة.
هذه الوصايا مستوحاة من رواية "سوناتا لأشباح القدس" للكاتب الجزائري واسيني الأعرج.