رسالة إلى مـ
عزيزي مـ..
أكتب لك بكلمات مرتجفة
خالية من السكينة والطمأنينة. تقاذفتنا الأيام حتى وصلت بنا إلى حافة الهاوية ثم
تركتنا معلقين هناك، بين المكان واللامكان. ونهضت هي لتعيد كرّتها في غيرنا منتظرة
منّا اعتياد هذه البينيّة أو اللاكينونة.
اعتدتُ يا صديقي أن
أعيش تحت أسقفٍ بلا رحمة، تهددنا بالانهيار بين الفينة والأخرى، وكأن لي بيتًا من
ورق مقوّى أو من الدومينو التي تقع جميعها حالما تقع واحدة منها. اعتدت أن أغطّ في
سبات عميق ولكن بنفس هذه المآسي ووجدت نفس هذه الكلمات المرتجفة أو شبيهتها في حلم
من الأحلام، إن لم تكن في جميعها. ثم يحدث أن أستيقظ فأرى الحلم في الحقيقة فأفقد
الإحساس بأنني كنت نائمًا في المقام الأول.
أريد أن أحكي لك عن
الوطن، أو عن اللاوطن، عن مساحة من الأرض وُلدتَ فيها وأمضيت طفولتك في شوارعها
وأحيائها ظانًّا منك أن الطمأنينة تعتريها وأن الأهل يحمونها وتحميهم، أن شوارعها
تحتضنك بحنان الأم التي مات أطفالها فتبنّت جميع أطفال الشارع. أريد أن أخبرك عن
سماء لم تنعم بالصفاء ولو لليلة واحدة منذ رأيت نورها، فقد ظلت دائمًا مليئة
بالحزن وبالفراغ السحيق وخالية من النجوم والنيازك والشهب. وحيدة شريدة تبحث
لنفسها عن مفرّ من هذه الأرض الشريدة، من هذا الوطن الجريح الذليل. تبحث عن مخرج
ما.
الفرق بيننا يا صديقي
بيتٌ من ورق وخيمة من قماش، تعددت المسميات والمعنى واحد، والشعور واحد، والأسى
واحد.
يحسدنا من له وطن نفاه
أو من ليس له وطن، ولكن الوطن بذاته منفى أحيانًا، ووجودك فيه هو أقصى درجات
"اللاوطن" وأقصى حالات النفي، يقولون لك مواطن ولكنك لست إلا منفيّ
يلبسونه قناع المواطن ويرغمونه على تصديق الكذبة التي اخترعوها، وأحيانًا تكون أنت
من اخترعها وصدّقها كي ينسى، أو كي لا يفكر مرتين.
لا فرق بيننا يا صديقي،
الأرض تنفينا جسديًا أو نفسيًا، فلا تأسى ولا تترك الأمل يتبدد وينهار داخلك فتخور
قواك في لمح البصر. اترك المسميات واستمع إلى كلماتٍ قد تشعرك في يومٍ ما أن
انعدام الوطن أهون من نفيه لك بدون ذنب اقترفته غير أنك تنفست من هوائه واستلقيت
على ترابه وستموت تحته.
لعل هذه الرسائل ومثلها
من غيري تعطيك شيئًا من الصبر.
ألقاك في وطنٍ قد نصنعه معًا يومًا.