Archive for June 2014

طمس الحقيقة


on , , , ,

No comments

طمس الحقيقة

أحببت ذلك الوقت من اليوم، من الصباح. ساعة ما بعد موت يومٍ وحياةُ يومٍ آخر. يومٌ جديد لم تتّضح معالِمهُ بعد. اعتدتُ دائمًا أن أرقُب تلك البداية، كيف ينزوي ظلامٌ حالك ويبهت لونُ السماء ثم يصير شاحبًا حتى يتلاشى بالكامل، فيظهر بين ذلك الشحوب وبزوغ الشمس لونٌ ثالث. تحسّ أنك في عالمٍ موازٍ للحظة، ثم تعود إلى الواقع.
توّد أن تظل هناك حتى وقتٍ غير معلوم، كما لو كنتَ بين الموت والحياة، لأنه التوقيت الوحيد الذي تُصنع فيه القرارات المصيرية التي تُغيّر مجرى كونك وكينونتك.
جلست هناك، على تلك الصخرة حيث يمكنني رؤية أشعة الشمس لحظة بزوغها وحيث أستطيع أن أسحب نفسي من أي عالمٍ أنا فيه وأذهب إلى عالمٍ آخر بملء إرادتي. عالمٌ انتظرت لحظة إعادة إحيائي فيه منذ زمن.
وبدأت أكتب..
كتبتُك في أول الصفحة عُنوانًا بخط النسخ. ثم توقّفت.
مسحتُ ما كتبته. ترددت لحظة ثم مزّقت الورقة ووضعتها بجانبي. بدأتُ من جديد.
كتبتُك لا اسمًا ولكن حرفًا بخطٍ عشوائي في منتصف أعلى الصفحة. عين.
ثم من أول السطر،
"هذه ليست قصة داخل قصة، فكّر ما شئت، المهم أن تترك للواقع شيئًا ما، فلكل قصة مساحة في الواقع كمساحتها في الخيال.
اخترت أن أضعك في كلماتٍ لأن الذاكرة قد لا تسعف مع الوقت، ولأن العُمر قد يُنسي والقلبُ قد ينسى ولكنّ شيئًا ما لا ينكسر. ذلك الشعور بأن الراحلين موجودون في مكانٍ ما على هذه الأرض، في هذه المدينة أو في مدنٍ أخرى لا تعلم لها اسمًا ولا تدرك لها مكانًا على الخارطة.
أردتُ أن أكتُبك حتى تمكث قليلًا في مكانٍ ما، لأنك دائم الترحال حتى وأنت هُنا.
كتبتُك بألوانٍ كثيرة. وبأشعارٍ ليس لها عدد. كتبتُك من أول القصة، قصّتنا. وعرفتُ أن من يقرأها سيظنّ أنها قصة حبٍ لم تتكرر من قبل. ثم مزّقتُ كل شيء وبدأتُ من جديد، لعلمي أن الناس لا يدركون من الحب إلا ما بين رجلٍ وامرأة. نسوا أن الحُب لا يُحدّد بإطار كهذا. نسوا فمزّقتُ أنا أوراقي لأذكرهم.
ينسى الناس فيذكرهم من ينسون أيضًا، من يكتبون لكي لا تخدعهم الذاكرة. مثلي
كتبتُك كما لو كنتَ ذلك الليل الحالك، ذلك الظلام الذي يجب أن يظهر  بعد تلاشي أشعة الشمس وظهور ليلة قمرية بها القليل من السُحب التي تترنّح بجانب ضوء القمر. ثُم رأيتُك في كلماتي يزداد اللون فيك قتامة ويزداد الألم حِدّة فتوقّفت.
لم أجرؤ على الاستمرار وأنت تزداد حُزنًا في قصتي.
ولكنني آمنتُ أن للطريق نهاية. فعُدت إلى حبري الأسود لأُكمِل ما بدأته.
أتردد كثيرًا ثم أعود. أكتُبك بلونٍ آخر لعلّ الليل يتحوّل إلى نهار، أو إلى شفقٍ برتقالي اللون مائلٌ إلى الحياة. أغيّر القلم على أملٍ لا جدوى منه أن يتغيّر  لونُك مع كتابتي. إلا أنك تظلّ كما أنت. تظلّ كما عرفتك وجهًا لوجه. لك شخصية حادّة صارمة لا يغيّرها لا لون قلم ولا قصّة خيالية ذات أبعاد تلاشت في الواقع.
فاستسلمت لك في قصّتي. تركتُ كلّ شيء في واقعي واختبأتُ بين كلماتي لأصل إليك كما أنت. ولأتخلص من هذا العالم الواقعي وأمكث في قصة قد لا تنتهي أبدًا. لا لأنني أريد العيش للأبد، ولكن لأنني أريد الموت في قصة. ميتة غير عادية، غير واقعية. ميتة تقتل بغموضها.
تركت حبري وقلمي وغرقت داخل أوراقي. تركت كلّ شيء لتحرّكه الرياح. وتبدأ قصتنا من جديد من حيث لا أدري.
لتكتبها أنت بألوانك، وأنسى أنا من أنا."


بداية الموت


on , , , ,

No comments


بداية الموت


فلنبدأ القصة من النهاية. من الوراء.
لنبدأ من الموت إذًا.
ذلك الشيء الغامض الذي نحاول اختراع جميع آلات الزمن من أجله، من أجل اكتشاف لغزه وحلّ طلاسمه. ونتعامل معه فقط كلغزٍ آخر من ألغاز الحياة التي يجب علينا اكتشافها، لا كشيء مبهم لن يُكتب لنا معرفته إلا إذا أخذَنا إليه بوعدٍ نقطعه بعدم العودة، شئنا أم أبيْنا.
لنبدأ القصة من الداخل. من تلك الآلام الحادة التي تتخلل الجسد المهترئ الهزيل الذي لا يقوى على قتالها ومقاومتها. يستسلم لها بملء إرادته وبدون إصرار. بسلام الأرض التي تخلو من الحياة.
ذلك الجسد الذي خانته الذاكرة ووهن العظم منه فعجز عن الحراك ثم سقط على فراش يشبه فراش الموت، ولكنه ليس فراش الموت بعد. هناك متّسع من الوقت ليصارع تلك الذاكرة. هناك بصيص من الأمل أن تأتيه لحظة من الماضي بكامل أبعادها وشخصياتها فيتسنّى له أن يبتسم ابتسامة أخيرة لن تكون جزءً من الحاضر، فقط فتاتًا من الماضي الذي سيكون هو الآخر جزءً منه قريبًا.
ذلك الجسد الذي اشتعل فيه الرأس شيبًا وهو يمضي ليبحث عن وجوه باتت في عداد النسيان. عن وجوه ملأت قلبه بالحياة في أحلك لحظات الموت. عن وجوهٍ كانت بها من كلمات عجزت البشرية عن تجميعها في قواميس لاستخدامها لمن هم في أمسّ الحاجة إليها مثله، لهؤلاء الذين سيحتاجونها ولن يشعر بهم أحد.
ثم لنذهبّ بالذاكرة إلى أبعد من ذلك بقليل. لنذهب إلى حيث تتّضح الرؤية قليلًا ويمكن للشفاه أن تتحرك لتقول كلمات معدودة كـ"كم هي قصيرة أعمارنا، وكم هو قاسٍ هذا الموت الذي دائمًا ما نظنّه بعيدًا خطوتين عنّا لنتظاهر بأننا قادرين على الاستعداد له، ولا يزال لدينا متّسع من الوقت لتصحيح أخطائنا".
لنذهب إلى حيث لا يزال لدينا متّسع من الوقت بينما نحن على غير وعيٍ به، إلى حيث تأتينا الفرصة وراء الأخرى ونتركها تكاسلًا أو تعمّدًا بينما تتردد "ليس الآن" على لساننا بشكلٍ اعتدناه حتى أصبحنا نلفظه تلقائيًا وبلا وعي منّا. فننسى فكرة الموت وننسى أن هدف الحياة ليس الحياة ولكن ما يتجاوزها.
ثم لننتقل إلى نقطة التحوّل في حياتنا. تلك النقطة التي تستقر عند لقاء الحبيب أو عند العثور على حلم يتكوّن في الواقع فيفضي علينا بسعادة لم نعهدها من قبل. فتتحول ألوان الحياة إلى درجات لم تكن موجودة من قبل أو لم تلحظها العين الحزينة والروح المعتمة. ويخيّل لنا أن شمس الصباح التي تخترق زجاج نوافذنا قد انقسمت وافترقت إلى شموس صغيرة تضيء جميع الأماكن المعتمة على هذه الأرض.
لنعُدْ بالزمن إلى الوراء أكثر. إلى أيام الشباب والرعونة. إلى حيث تكبر أمامنا الأحلام التي لا زالت صعبة المنال، وتتهالك الأفكار البسيطة الـ"ـعادية" وتُستبدل بأفكار مجنونة طائشة ولكنها مفعمة بالحياة. أفكار تصنع من صاحبها مخبولًا يريد أن يحتلّ العالم ليسيطر عليه بمعتقداتٍ يملؤها الفنّ، ذلك الفن الذي يصل بصاحبه إلى حافة الجنون.
وبعدُ فلنرتحل إلى عالمٍ مليء بألوان الطفولة. بكلمات ليس لها معنى ولكنها تحمل صدقًا ينساه العالم مع تقدّم العمر، ويتناساه الشيوخ إذ هرِموا وماتت لديهم معانٍ كثيرة لم تعُد تُشكّل الحياة. لننزلق من هذا الواقع المؤلم ونعود بالذاكرة إلى حيث تُسعفنا الذاكرة. إلى حيث نستمع إلى عبارات عفوية وبكاء أقسى أسبابه إضاعة لعبة الطفولة المفضلة.
لننسحِب من هذا العالم بهدوء الرضيع على صدر أمه، أو بهدوء الجنين في بطنها. لننسحب دون أن يشعر بنا أحد ودون أن تنهال الدموع على قبورنا. لنمضي في سلام قبل أن نزعج الأحياء الذين يصارعون حتى لا يرحلوا يوميًا معنا وهم يتنفسون نفس الهواء الذي تنفسناه ويمشون في الشوارع ذاتها التي مضينا فيها.
لننسحب كالأطفال على فراش الموتى. لننسلّ إلى ذلك العالم الآخر أطفالًا في أجساد شيوخ.
ولكن لنترك قليلًا من الذاكرة لهذا العالم الكئيب.

لنترك قصة تنتهي من مستهلّها.