وصية العجز
ولدي،
أَعلمُ أن الدنيا لم
تعطِني حبًا بعد لأُفرغ فيه كينونتي وآتي بك إلى هذه الدنيا ولكنني أردت أن أكتب
لك ما قد أعجز عن كتابته والبوح لك به عندما نلتقي للوهلة الأولى ونكبر سويًا ونحن
لا نشعر.
اعلم يا ولدي أن حمول
هذه الدنيا على كتفيك ستكون أحيانًا خفيفة الظل رشيقة تكاد لا تشعر بها، وأن
الكلمات والعبارات والعواطف ستساعدك أحيانًا كثيرة حينما تكون في حاجة إليها.
اعلم أنها ستفي بوعدها
كما أوفت بوعدها من قبل، ولكن اعلم أيضًا يا ولدي أن الوفاء بالوعد لا يستمر
للأبدية، وأن سلسلة المشاق والمتاعب هنا لن تكون دائمًا على نفس النهج بحيث تجد ما
تريد البوح به في كلمات بسيطة أو عبارات خفيفة ذات معنى. ليس هذا ما يحدث مع الزمن
وما يسلبه منّا ومع اختلاف الكلمات وعمقها من فينة إلى أخرى.
ستأتي عليك يا ولدي
أيامٌ لن تفهم فيها عجزك عن النطق أو التعبير بشيء من العاطفة والحنوّ. ستجد
الكلمات تخدلك والعبارات تهرب منك مخافة أن تضعها في مكانها الخاطئ، ستجد أن
الخذلان تزداد حدّته يومًا بعد يومٍ من كلماتك مرة ومن من هم حولك مرة أخرى.
أرجوك ألا تجزع ولا
تفزع، فهي سنة النضوج.. لن يسعفك ما بداخلك كما كان من قبل.
أوصيك يا ولدي في هذه
الأوقات بلمس مفاتيح بيانو مغلق والعزف عليه برفق في لحظات حزنك أو بغضب في لحظات
فقدانك لعقلانيتك. أريدك أن تترك مفاتيحه تتفوّه لك بكل ما عجزت عن البوح به أو
التعبير عنه، ستجد الكلمات تتناثر بين يديك وتطير بخفة ورشاقة أمام عينيك لتعطيك
ما لم يعطه لك أحد. دع الآلة تنطق بما عجز البشر عن النطق به وستجد فيها وفاءً لكل
الوعود التي جزعت منها وآلمتك حتى الصمت الموحش.
أوصيك بألا تتركها بلا
عودة. اترك الغبار والتراب ينهالان عليها إذا لم تحتاجها ولكن عُد لها في وقتٍ ما.
وعُد لها في وقت فرح قبل وقت حزن وعجز ، حتى لا تعذّبها بكلماتك الكئيبة الحزينة
فقط. بُح لها بكل ما تستطيع من فرح وحزن وألم وتحمس واشتياق وجنون وحب ولهفة. احكِ
لها عنك وعنّي وعنّا معًا وعن الدنيا وعن الأحبة والذين فارقوك وعن كل ما يجول
بخاطرك. لا تتردد.
فالتردد يا ولدي يأتي
لتنهار معه كل نغمة رقيقة عزفتها يداك. اعزف يا ولدي بلا توقف وتذكر، ليس كل ما
يبعث الطمأنينة يتنفس كالبشر. تنفّس أنت كبيانو ودع البشر يتنفسون للعيش لا أكثر.