الكتابة والقاتل


on , , , ,

No comments


الكتابة والقاتل


وعدتُني بأن أكتُب. وعدتُني بكلمات كتبتها ولم أكن أعلم أن وعدي لنفسي "حُجة" مؤلمة أراها أمامي كل يومٍ وأفكر فيها بدون توقف. لم أُفكر في أوراقي ولا في أقلامي بل فكرت في مُدونتي الوحيدة شديدة الوحدة منذ انعزالي من ثلاثة أشهر ومنذ قراري بأن أترك الكتابة فترة حتى أستطيع أن أُقرر ماهية كتاباتي وما يجب أن أُعود نفسي الفقيرة عليه بعد أن أصبحت من أكثر من يعجزون عن التعبير بالكلام وبعد أن اكتشفت أنّي أقف أمام العديد من الناس محاوِلة وجاهدة لأقول ما بداخلي ولكن أُدرك حينها أن الكلام ليس لأمثالي.. أمثالي يكتبون لا يتكلمون.
هل هذا مرض؟ أم هي الكتابة؟ وهل الكتابة "مرض" أصلًا؟ لو الإجابة هي لا، إذن فلِمَ انتحر كثيرٌ من الكُتاب أو دخلوا في مراحل اكتئاب مزمن آلت إلى تعبيرهم بأشد الروايات والكتب حُزنًا ووجعًا. ما هي الكتابة؟ تعبير عن النفس؟ وماذا تصبح بعد أن تتحول إلى عادة؟ أتصبح "موهبة"؟ موهبة جاءت نتيجة أوجاع وآلام؟ آه...مُحيرة.
أقررت أن أكتب بالعربية فقط؟ لا أدري. أقررت أن أعتزل الإنجليزية بسبب حُبي المُفرط للعربية مؤخرًا ولكي أُنميها في عقلي بأكبر قدر وأنتفع وأنفع الناس بها بأي شكلٍ من الأشكال؟ والله لست أدري، ولكن كل الذي أُحسه هو ألم رهيــب ووجع لا يُحتمل وكأن بداخلي قنابل موقوتة تنفجر كلما عجزت عن اتخاذ قرار حول هذه المسألة، وكأن عجزي يتبدّل ويتحول إلى أسلحة ضدي تُدمرني تدميراً لا هوادة فيه. هي مُهددي وسارقي ومغتصب نفسي منّي. ولكنها لا تزال شيئًا مدهشًا يبعث إليّ سحرًا مع العودة إليه، كالمدمن الذي يُدمر نفسه ويستمتع بها في نفس الوقت..ماسوشية؟ ولمَ لا؟
أُريد أن أصبح كغسان كنفاني. من يعرفني جيدًا يعلم يقينًا أني لديّ جنون بشخص الكاتب الفلسطيني الذي اغتالته الموساد، غسان كنفاني. غسان هو رمز النضال الأمثل بالنسبة لي، وهو فاق بكثير إرنيستو جيفارا الذي كان رمزًا للنضال في قلبي في يوم من الأيام، حتى قدّمت لي الأيام غسان كنفاني في أول رواية صغيرة قرأتها له وهي "عائد إلى حيفا" وبدأت عقبها اقرأ "رجال في الشمس" ثم "أرض البرتقال الحزين" ثم وأخيرًا "موت سرير رقم 12"، تلك الأخيرة التي لن أنساها طالما حييت. كيف يستطيع كاتب روايات قصيرة وقصص لا تتعدى الصفحات العشر أن يكتب كلمات بهذا العُمق دون حاجة إلى الإطالة لإيضاح فكرته أو تعميق أوجاعه على بلده؟ كيف استطاع أن يتركنا في هذه الصدمة مع كل قصة قصّها ومع كل جملة أراد بها إيضاح أفكار ليس لها حصر؟ كيف وكيف؟ وكيف قتلوه ولم يبق منه أشلاء واحتفلوا باغتياله على طاولاتهم السياسية القذرة؟ آهٍ يا غسان يا قاتل! قتلوك جسديًا فقتلتنا نفسيًا قبل أن تُكمل عامك الأربعين.
وكيف، اشرح لي، جئت بهذه الكلمات التي أبكتني على عروبتي وعلى فلسطيني وجعلتني في كل مرة أقف عن الكتابة والقراءة لأتعافى من صدمة كلماتك. أتساءل أحيانًا: وماذا كان سيحدث لو افترضنا أنهم لم يقتلوك؟ هل كنت ستدلُّني على محيط الكلمات الذي تأتي منه بها؟

يا قاتل! لأجلك وبسببك أريد أن أُكمل مسيرة ما، أريد أن أستكمل ما تركته: قتل الناس بالكلمات ليعجزوا عن الحديث المُترف الدنيء الذي لا ينتهي.. وينتصر سيف الكتابة على أعداء السياسة. نعم.


Leave a Reply

Just say it.