ننسى ونُنسى
كانت حقيقة لا يستطيع شخصٌ عاقل أو ناضج أن يُنكرها: كُلما زِدتَ عُمرًا كُلما اقترب شبح الموت منك وممن حولك بشكلٍ مُرعب. وقد حدث هذا أمام عيناي بعدَ أن وصلتني رسالة منذ حوالي عامين برحيلِك. كنتِ أقرب إلى زميلة لي ولستِ صديقة مُقرّبة. كُنا أحيانًا نجلس سويًا على مِنصة دكتورة الجامعة قبل أن تُعطي محاضرتها المملة الشهيرة والتي كنّا نحضرها لأن وجهها كان يملؤنا بالرعب وكأنه كُتب عليه "لن تنجحوا أبدًا أيها الفاشلون". مُحاضرة الأدب أو النصوص. كُنتِ ذات قلبٍ مَرح وكُنتِ تُحبين بلدك أشد الحُب حتى أحببتني فيها، السويس. ثم وبعد عامٍ ونصف من تخرُجِنا إذا بكِ تُرسلين بالرسائل إليّ وأنا لا أعبأ كثيرًا حيث أنني دائمًا ما كُنت أتجاهل رسائل من هم ليسوا مُقربين لي بسبب ضيق وقتي أو انشغالي بأمور أخرى، وكانت هذه آفتي العظيمة. لا أتذكّر كيف وكم من الوقت ندمت على هذه المعاملة المُريبة التي كنتُ أعاملها لمن يهتم بي، ولكنني أتذكر جيدًا وقع الخبر عليّ عندما أرسلت لي إحدى صديقاتي المقربات رسالة بها "موجة ماتت يا نعمة!!!". وقفتُ أمام الرسالة وأنا لا أدري ماذا أقول، هل كانت مريضة أصلًا؟ حادثة سيارة؟ يا ربّي ماذا حدث في لمح البصر؟ سألتُها في رسالة أخرى فلم أجِد منها هي أيضًا ردًا واضحًا. قال البعض أنها أصيبت بمرض خبيث في معدتها، وقال آخرون أنها كانت تُجري عملية الزائدة وفشل الأطباء في إنقاذها. ولكن هل المهم "كيف" ماتت أم المهم أنها ماتت وأنا لا زلتُ أنا ذلك الشخص السيء الذي تجاهل رسائلها السمحة الجميلة؟
ثُم إنني لن أنسى بعدها سلسلة غريبة من الوفيات من أقارب صديقات
مقربات لي، ثم وفاتنا أنفسنا من الداخل، سلسلة من الأحزان والأوجاع اللامتناهية
لابد لها وأن تزرع فينا نقصًا ما، تمامًا كما زرعوا هُم فينا ما يملأ جانبًا من
حياتنا. من الصعب اقتلاع شيء تعودنا عليه وبدون أدنى تحذير أو استعداد لهذا النقص،
من الصعب نسيان من لم ينسونا وهُم أحياء، إلا أننا ننسى، إلا أننا نعتاد على هذا
النقص حتى يملأه شيء أو شخص آخر، لكن لابد للحياة أن تُنسينا ولو كان بمقدار ضئيل
جدًا. تبًا للنسيان والحمد لله على نعمته في آن واحد.
تقترب مني سلسلة أخرى من واجبات "البقاء والدوام لله"
و"إن شاء الله في الجنة" وعزاء هُناوعزاء هُناك، تقترب ولا أدري من
سيأتي، أو بالأحرى، سيرحل غَدًا و بـ"أي أرضٍ يموت". أذكُر في كل عامٍ
صعود أعمال الإنسان في منتصف شهر شعبان، وأذكُر أيضًا أنه مع هذا الحدث دائمًا ما
تتوالى سلسلة لامتناهية من التعازي وفي كُل مرة تقترب أكثر.. ولكن لإننا
"إنسان" من الـ"نسيان" فإننا ننسى من أحبونا ولو للحظة، وننسى
من نُحبهم، ولو للحظة أيضًا.
تُنسى’ كأنَّكَ لم تَكُنْ
تُنْسَى كمصرع طائرٍ
ككنيسةٍ مهجورةٍ تُنْسَى’
كحبّ عابرٍ
وكوردةٍ في الليل .... تُنْسَى
- محمود درويش
رحِم الله الجميع..