كنتُ فيك


on

No comments

كُنتُ فيكْ


أردتُ أن أتحرر من قيد لا يُرى، من نفسٍ لا يشعر بها أحد من هول ما تُخفيها الذنوب والخطايا وتتخطّفها أمواج الدنيا التي هي كالبحر تسحب أمواجُه كل ما يقابلها من صغير أو كبير. أردتُ أن أركض وأعدو حالما تحتلّني أفكارٌ هي كالعدوّ أقرب منها إلى الصاحب الذي يساعدني على العودة إلى نفسي، لعلّ شدة اندفاع الهواء على وجهي وتخلله داخلي يطرد هذه الأفكار ويُبعدها عني فينفُضها كما لو كانت كائنًا غير مرغوبٍ فيه وسط زحام قاتل. أردتُ أن أترك ورائي شيئًا ما، شيئًا لا ينساه كائن من كان، شيئًا لم أعرف ما هو، ولكنني كنت أعرف ما أريد. أردت في لحظة ما أن أصبح ربيعًا يتذكره من يكره الصيف وينتظر الشتاء بشغف ولهفة، ثم تذكّرتُ أنه ليس إلا فصلًا لا يتذكر نعمته الكثيرون. وقررتُ أن أصبح كتابًا، نعم، كتابًا. أردتُ أن أحيا، بكل كلمة فيه، في نفس كل من عرفتهم أو لم أعرفهم. تمنيت أن ألقي بأحرفه الواحد تلو الآخر على عالم ينسى أن الكلمات تُنقذنا كما تؤذينا، فهي نورٌ وبعضُها لنا قبور. ثم قررت أن أصبح كتابًا يملؤه الغضب والجنون والتردد والسكون والصمت. سأضُم كلمات صامتة وغاضبة، كلمات هادئة وعاقلة ثم مجنونة ومرتبكة. سأعطي كلمات مفهومة ثم كلمات لا معنى لها، أو قد يكون لها معنى لشخص واحد فقط في هذه الدنيا. سأغضب وأنفجر داخل أوراقي وصفحاتي التي ستتحملني بكل قوتها وضعفها، وستتكبّد حُزني وفرحي وأمنياتي ويأسي ربما في صفحة واحدة. سأكتبني في آخر السطر إنسان وفي أول السطر محاولة للوصول للإنسانية بالمعنى السليم. سأُحرّكُني من مكان إلى آخر وأتنقل بين صفحاتي إلى عالم لم ولن يراه إلا من يقرأني من داخله وليس فقط من يقلب صفحاتي كأي كتاب تملؤه الكلمات بفراغها المُهلِك. سأُغنّي بكُل أغنيات الزمان ثم أبكي بكل دمعة ماتت قرب شفاه الحزين الذي لم يشعر به أحد، ثمّ أنفرط في البكاء بجانب آخر كلمة في صفحتي التي ساُنهي بها فصلًا وأبدأُ آخر بعد الهدوء الذي يلي هذا الحزن، وسأتظاهر بأن القارئ ضمّني إليه واستمع إلى الدموع تسقط من أول الصفحة إلى آخرها. بل وسأتيقّن بأن قارئي ملأته الإنسانية التي كانت في صفحاتي حتى إنه قام ليمسح دموعه معي قبل أن يبدأ فصلًا جديدًا أكون أنا فيه قد نسيتُ سبب بكائي. سأُجنّ من كثرة الكلمات التي أريد أن أقولها ومن كثرة الصمت الذي أودّ أن أملأ به صفحاتي، فلا تكون فارغة ولا تكون معبّأة بالتفاصيل غير المفهومة. سأترك مساحتي المعتادة وأضع كلماتي على هامش الصفحات، أو أكتبها مقلوبة كما تصنع فينا الحياة أحيانًا. سأكتبها تارة بخطّ يُرى وتارة أخرى قد لا تكشفها عين الرائي ولكن قلب القارئ، وتارة بخطّ مائل يوحي بانحرافي عن مبدأ تمسّكت به ثم تركته لسبب لا يُبرر. سأكتُب حتى يعجز القلم والقلب عن البوح بكل ما في داخلي ويحتجّ الصمت من كثرة كلماتي فيرجوني أن أترك له صفحاتي الآخيرة ليُكمل ما بدأتُه ووعدتُه به. فأترك الصمت يبدأ بالوداع وينتهي حيثُ أنتهي أنا.


ثُم أكتب عنواني على الغلاف الخارجي: "كنتُ فيك"


Leave a Reply

Just say it.