هرتلات


No comments

هرتلات

تدمير النفس من أسهل ما يمكن، فهو لا يتطلب تفكيرًا عميقًا ولا تمحيصًا أو دراسة للمسائل الحياتية الدنيوية للوصول إلى حلٍ لها؛ بينما يسهل على المرء اختيار طريق يتعاطف معه الجميع (أو على الأقل نسبة من المحبطين).. فصاحب القضية، وإن كنا سنسميها قضية من الأساس، لا يريد في الحقيقة إلا من يربّت على ظهره أو على كتفه بدون أية كلمات أو عبارات مبتذلة من أمثال "الحل بسيط" أو "لا تُعقّد الأمور" أو جميع هذه العبارات المستفزة التي تصل بالشخص إلى قرار الصمت الأبدي بدلًا من الاستخفاف بآلامه. لقد أيقنت وبعد زمن وسنوات طويلة من هذه المصارحات بين الأحبة، أن ملَكة التفهّم يصعب أن نجدها في الكثير من الناس هذه الأيام، وحتى مع أقرب المقربين لنا، إلا إذا كان الشخص قد تعرض لنفس الألم ولهذه الأوجاع في فترة ما، أو أنه من الأناس الذين يتمتعون بموهبة الصمت عند سماع ألم مقرب منهم، ولكن السماع لا يكفي.. الأذن لا تكفي، بل الحواس كلها لا تكفي. فماذا يكفي؟ لا شيء يكفي.
                                                                                                       


 ولكنني أؤمن أن تدمير النفس لا يجب أن يكون بهذا المعنى فقط، فلِم لا يكون لنا المقدرة على تدمير النفس لإعادة هيكلتها وتشكيلها من جديد؟ من منّا لا يؤمن بالبدايات في رأس العام الجديد أو في شهر رمضان أو في لحظة جلوس بعد صلاة خاشعة، من منّا لم يتمنى أن يبدأ من جديد ولكن بعد تدمير نهائي وسحيق لما هو عليه الآن، لينتقل شخصه الآن لشخصه في الماضي، كطريق يُلقي فيه ما لا يحتاجه من ماضيه ويرصّفه لشخصه الآتي. فيضع عليه قائمة من الصمت الجميل والكلمات المختارة بعناية والردود التي تأتي في موقعها وزمانها المناسب. يضع عليه الوقت بالساعة والدقيقة والثانية واللحظة وبطرفة العين ويجمّله بالتفاؤل والعبارات الشعرية اللبقة والكتب الأدبية التي تنمّي فيه روح الإنسانية رويدًا رويدًا حتى يصحو إنسانًا من جديد بعد أن قتل أشباه الإنسانية فيه. ثم يؤسس في مقدمة رؤياه النوايا والإخلاص ويتعلم كيف يصل إلى راحة البال في دنيا تخلو من أي سلام داخلي أو حتى خارجي. ثم يتعلم كيف يبني أفكارًا في عقله قبل أن تبني نفسه (الأمّارة بالسوء) أفكارًا قبله، أو أشباه أفكار إذا صحّ التعبير. وتبدأ الفجوة الداخلية في روحه تمتلئ بكل ما هو قادر على قتل الفراغ قتلًا لا هدوء ولاسلام فيه.
ويومًا ما سيتعلم أن الكلمات لا تصلح لمن لا يملكها، وسيصمت حتى يفرّ الصمت منه وينتقل إلى من لم يصارع نفسه بعد.


Leave a Reply

Just say it.