Archive for 2014
ليست أحلام
حدّثني عمّا لم تحلمُ به، حدّثني
عن كل ما لم تحلُم به، عن الألوان التي تقبع في واقعك ولم تصل إلى أحلامك. عن
الأشياء التي لم تحدث قط، و الأشياء التي ظلت في المنتصف عالقة بين عالمين، واقعٌ لامتناهٍ
وأحلامٌ عنيدة. قل لي إنك حلّقت في السماء من حولي لتصل إليّ برسالة فيها ما
ينقذني مما أنا فيه، مما نحن فيه، ولكنك لم تفعل.
أو ربما يمكنك أن تحكِ لي
عن الأشياء التي لطالما أردت أن تسكن أحلامك ولكن خيالك لم يصل إليها أو لم يكن
بالقوة والشجاعة الكافيين لأخذها معه. وقد تكون أحلامك الهزيلة التافهة تملأ ساعات
نومك ولم يعُد هناك متّسع للأحلام العريضة.
قل لي إن ما أنت عليه في
الواقع ليس هو ما أنت عليه في أحلامك، علّ أحلامنا يومًا ما تتزامن في نفس اللحظة
ونلتقي أخيرًا في المنام، نلتقي شخصان آخران، لا أنت أنت ولا أنا أنا. وفي أحلامنا
قد نجلس نحن الاثنين في مكانٍ ما بين أفكارك وفوضى الكلمات في أحلامي، مكانٍ قد
نقع فيه في صمتٍ لا نهاية له ودون حاجة لأي نظرة أو كلمة أو لمسة من أيٍ منّا.
حدّثني عمّا لم تحلم به،
عن كل تلك الأشياء التي تقع بين الواقع والخيال، بين الحلم والحقيقة، في زمانٍ
ومكانٍ موازيين، قد لا تحدث أبدًا وقد تحدث الآن وفي هذه اللحظة، من يدري. حدّثني
عن الأشياء التي طالما أردتها بشدة ولكن لم ترها حتى في أحلامك، عن كلّ ما أردته
ولم تقاتل من أجله عندما منعك جبنك. حدّثني عن كل انكماشة في جسدك وكل لحظة هروب
في داخلك، هروب من الحياة، انكماش من المجهول. رهبة من المجازفة. مجازفة في الصمت.
مكوث عند حافة المستحيل.
حدّثني عن كل شيء.
English version: Undreaming
on أفكار, تراجم, عن الكتابة
اكتب
اكتب. اكتب لأن تملُّكَ الخوف مِنك لن
يسمح لك بالكتابة أبدًا. اكتب لتهدأ من حدة إحساس الكلمات بداخلك وهي سجينة تصارع
لتُفقدك صوابك. اكتب لأن من يقرأ لك يحتاج أن يتعلم سلسلة أفكارك التي تعبّر بها
عمّا تريد أن تكتب، لأننا أحيانًا نحتاج إلى شخصٍ واحد فقط يشاركنا إحساسًا واحدًا،
مهما كان السبيل إلى ذلك.
ليس المهم أن تكتب قطعة نثرية وليس
المهم أن تكتبها بطريقة شِعرية مسجعة ولا حتى بقليل من الشعر. اكتب ولا تقل لي عمّ
كتبت ولِمَ. دع الكلمات تنساب من قلمك على الأوراق ليصبح معدّل الكلمات في الدقيقة
الواحدة معدلًا هستيريًا لا يُصدّق أن يستوعبه رأسك. اكتب حتى يُقال أنك لست إلا
قاتلًا للكلمات أو محررًا لها، ولكن لا تهتم بالمسميات فهي من السهل التلاعب بها.
وإياك إياك أن تساوي بين من يكتب ومن يُطلَق عليه كاتبًا.
لا بأس إن لم تحرر روحك في الكتابة،
ولا بأس أيضًا إذا تعسّر قلمك وتوقف قبل أن يصل إلى السطر الثاني أو الثالث، لا
يهم. المهم ألا تهجره للأبد. اتركه قليلًا ثم عُد إليه عندما تستجمع قواك لتستكمل
بعض سطور أخرى. لا تترك عملًا في منتصفه فقد تفقده للأبد.
اكتب لأن العالم يحتاجك أن تكتب. لأني
أحتاجك أن تكتب، ليس عنّي ولا لي. أحتاجك أن تقول لي عن الكلمات التي تدور في رأسك
وأحتاج إلى أن أعرف خيط أفكارك، من أين أتى وإلى أين يذهب وإلى أين قد تجعله يهرب
منك دون أن تدري. اكتب لأني أحتاج إلى من يكتب معي، في نفس اللحظات التي أكتب فيها
وفي نفس الأماكن وبنفس الحيثيّات. قد تتهمني بالأنانية وقد تغفل عن معرفة السبب
الحقيقي لهذا كله. ولكنني أريدك أن تكتب أفكارك إذا لن أسمعها منك على الإطلاق.
أريدك أن تكتب لأن كلماتك ستكون هي الأشعة التي تتخلل الحياة مع شمس الشروق بعد
ليلة معتمة، ولأنها ستنير روحي وروحك كسحر من وحي الأفكار الذي يأتي على غفلة منّا.
اكتب
لأجل هذا.
أحتاجك، أنت، بكل ما فيك، أحتاج وجودك
بنفس هذه الظروف، ولكن بالكثير من الكلمات التي تعطيها لي لأكتبها، أو تكتبها أنت.
أريد لكلماتنا أن تكمل بعضها بعضًا، ولصمتنا أن يتماشى مع وقفاتنا معًا. وسيأتي
اليوم الذي لن تضطر فيه إلى الكتابة، حتى أكتب أنا. وسأكتب لك، سأكتب لأجلك، سأكتب
معك، ثم سأكتب عنك. سأكتب حتى يمكنك أن تتحرر من نفسك عبر كلماتي وتحررني معك.
اكتب حتى أكتبك.
*محاولات لترجمة أعمالي الإنجليزية حتى لا تضيع هباءً منثورًا :) **
هستيريا صمت
تملكتني رغبة عارمة لامتناهية في الصمت، وانهالت عليّ
كما لو كانت جبلًا من الجليد فوق رأسي أو بداخلي، وتركت كل كلمة تعلمتها تلفظ
أنفاسها الأخيرة تحت هذه الرغبة ثم تلقى مصرعها في غضون ثوانٍ معدودة.
سُئلت عمّن أكون فسكتّ، تارة لأنني لم أعرف حقًا وتارة
أخرى لأنني لم أجد الكلمات في رأسي. ثم سُئلت من أين أتيتُ وإلى أين أشقُّ طريقي،
فلم أعرف ماذا أجيب، وكأن أحدًا ما خاط شفتاي ليمنعني عن الكلام. ولكنني بالفعل لم
أرِد أن أتكلم. سألوني عن اسمي وعن وطني وعن عائلتي ومأواي. لم أنطق. لم أتحدث.
جُنّ جنونهم لهذا، ولكنني التزمت بهدوئي أمامهم. اتلزمت بصمتي كما لو كنتُ قطعتُ
وعدًا لا يمكن أن يُخلف.
هذه المرة ظنّوا أنني أنا المجنون. أخذوا يتغامزون
ويتحدثون عنّي على مرأى مني وأحيانًا أمامي مباشرةً، يحسبون أنني أصبحت لا أسمع،
أو أنني لن أنطق مجددًا أبدًا.
(ربما كانوا على حق أو ربما تنبؤوا بمستقبلي)
أصغيتُ لهم ولكل كلمة قيلت عنّي. سمعتهم يستهزؤون بي
وبكلماتي في الماضي، والتي أصبحت الآن في عداد النسيان. رأيت كلّ شيء وسمعت كل شيء
ولم تضعف شفتاي للنطق بكلمة واحدة ورد استهزائهم باستهزاء آخر. ثم بدأت أستمع لهم
وأستمتع بما يقولونه، وبدا صمتي أمامهم بالتحديد هو استهزائي بهم وبغفلتهم. نسوا
أنني فقدت قدرة ما على الحديث وليس على الإنصات. ونسوا أنني لم أفقدها بالتحديد بل
كانت رغبة قوية مني بعد أن انتابتني هستيريا من الكلمات في لحظة ما من يومٍ مشؤوم.
نسوا كل شيء. ولكنني لم أنسَ.
سمعت منهم كل ما يخطر ببال ولم أتحدث،
سمعت منهم القيل والقال بينما بدأت خيوط أفكاري تتمزق كما تمزقت معها الخيوط بين
شفتيّ أيضًا. شعرتُ أن كلماتهم تتخلل الفراغات بين شفتيّ لتُحدثَ ثقوبًا داخلي دون
أن أنبس ببنت شفة ودون أن أتفاعل بأي شكلٍ من الأشكال أو كلمة من الكلمات.
تحدثوا حتى أرهقتني كلماتهم، وكأنني
كنت أنا المتحدث طيلة هذا الوقت. تحدثوا وكأن حديثي سابقًا كان يردعهم عن النطق
بأي كلمات غير كلماتي، مستعيرين بهذا بكل لفظة ألفظها في كلماتهم، ومتجاهلين وجود
صمتٍ قد يسحق كل هذه الكلمات في لحظة إن أراد.
وانتابتني هستيريا. نوعٌ آخر من
الهستيريا هذه المرة. لم أُرِد أن أتحدث مطلقًا. صمتُّ حتى كاد الصمت يشكو من صمتي
وتوسل إليّ كي أذيب ذلك الجبل الجليدي فوق كلماتي. صمتُّ حتى لم أعُد أعلم لمَ كنت
أتحدث من قبل ولِم اعتدتُ أن أقْحِم كلماتٍ عديدة في حديثي لم يكن لها أي معنى إلا
أنها كانت مجرد ملء لفراغات بين الدقيقة والأخرى. صمتُّ حتى لم أعُد أريد أن أتعلم
كلمة أخرى، وكأنني اكتفيت بمعجم الكلمات في ذاكرتي ولا أريد أن يشوبه أي لفظ قبيح
من ألفاظهم وألفاظٍ جديدة لن تروق لي.
صمتُّ حتى أدركتُ الفرق بين حديث
الظالم وصمت المظلوم.
ثمّ قررت أن أصمت للأبد.
Some things in the world are just too sad, too sad for you to imagine exist.
هذا العالم لن يغرِقهُ إلا محيطات الحزن في أرواح البشر، وما خلّفه منهم من رحلوا بلا عودة..
هذا العالم لن يغرِقهُ إلا محيطات الحزن في أرواح البشر، وما خلّفه منهم من رحلوا بلا عودة..
on Life, Personal, Thoughts, Words
Write. Write because the more you cower the less you will ever be able to write. Write because no word is ever going to give the same meanings and feelings inside of you, so the least you could do is get some of this intensity out, for the sake of your own survival. Write because people need to read what you have to say when you think of the words to pen down. Sometimes it only requires one person to know we're not alone, and to know that someone, somewhere, somehow is sharing a feeling you keep within.
What you write does not have to be a wonderful prose piece; it does no even have to be by any means poetic. Poetry needs contemplation anyway and you need a simple and straightforward reassurance that you're there, you're alive, you feel like everyone else, and you carry the same sufferings as everyone else. You don't have to fight to be different in that too. At the end of the day we all experience the same feelings of guilt, reconsideration, and over-thinking. It is those minutes before sleep that also truly define us and who we are, and who we also want to be. It is these moments that let us discover ourselves within, and maybe, just maybe, do something about it someday.
Write, and I don't have to tell you about what you can write, because if you believe in Sylvia Plath's quote, you will know that everything in life is writable about if you have the outgoing guts to do it and the imagination to improvise; the worst enemy to creativity is self-doubt. But I am not asking you to be creative here nor am I asking you to be a writer per se; I am just asking you to write. Writing and being a writer are two different things.
It is okay if you do not find yourself in writing, and it is okay if you cannot even make it to the third line. Leave it. Move to doing something else. Get back to it later. Just do not let it rust out forever.
Write, because I need you to write, so badly. I need you to tell me the words in your mind and I need to know your stream of thoughts perhaps we will find some things in common, anything in common. And I am not just saying this to make myself feel better; I am saying this as a mutual benefit to both of us. Because I need to read your thoughts if I will never hear them.
I need you to write because your words will work like sun rays to the morning, because they will shine in my soul like a magic of inspiration from an unknown source and in a sudden moment.
I need you, all of you, to exist, in the same way that you are, with a few more words to write. And you will complete me, with your words, and some of my silence. And it will be my turn soon and I will write to you. I will write for you. I will write with you and I will write about you. And then you can set yourself free, and set me free with you.
Just write.
What you write does not have to be a wonderful prose piece; it does no even have to be by any means poetic. Poetry needs contemplation anyway and you need a simple and straightforward reassurance that you're there, you're alive, you feel like everyone else, and you carry the same sufferings as everyone else. You don't have to fight to be different in that too. At the end of the day we all experience the same feelings of guilt, reconsideration, and over-thinking. It is those minutes before sleep that also truly define us and who we are, and who we also want to be. It is these moments that let us discover ourselves within, and maybe, just maybe, do something about it someday.
Write, and I don't have to tell you about what you can write, because if you believe in Sylvia Plath's quote, you will know that everything in life is writable about if you have the outgoing guts to do it and the imagination to improvise; the worst enemy to creativity is self-doubt. But I am not asking you to be creative here nor am I asking you to be a writer per se; I am just asking you to write. Writing and being a writer are two different things.
It is okay if you do not find yourself in writing, and it is okay if you cannot even make it to the third line. Leave it. Move to doing something else. Get back to it later. Just do not let it rust out forever.
Write, because I need you to write, so badly. I need you to tell me the words in your mind and I need to know your stream of thoughts perhaps we will find some things in common, anything in common. And I am not just saying this to make myself feel better; I am saying this as a mutual benefit to both of us. Because I need to read your thoughts if I will never hear them.
I need you to write because your words will work like sun rays to the morning, because they will shine in my soul like a magic of inspiration from an unknown source and in a sudden moment.
I need you, all of you, to exist, in the same way that you are, with a few more words to write. And you will complete me, with your words, and some of my silence. And it will be my turn soon and I will write to you. I will write for you. I will write with you and I will write about you. And then you can set yourself free, and set me free with you.
Just write.
وتمضي
أسوأ ما في الحياة أنها تمضي، دون إذنٍ
منّا ولا سابق إنذار ودون أية استجابة لنداءات من يريدون أن يقبعوا في
"الآن" ويتركوا كل ما وراءهم وما أمامهم بعد أن حصلوا أخيرًا على ما
يعطيهم أحلامًا سعيدة عند نومهم وأحلام يقظة هيّنة سهلة المنال. ولكنها لا تكترث
لمكوثنا ولا تستأذن أحدًا.
تنهض وبكل شجاعة وجرأة وتضرب بأحلامنا
عرض الحائط، وتمسح كلمات شعرائنا وكُتّابنا وحالمينا مستعينة في كل هذا بشمسٍ في
عنان السماء لا يطولها أحد، ترمي بأشعتها نهارًا وتترك المتفائلين ليلًا لينسحبوا
في هدوء شديد إلى نهاية يومٍ سعيد، ويواجهوا ظُلمة ليلٍ تُسمع فيه أصوات الحزانا
داخلهم وفي الشوارع الخلفية عند بيوتهم، وتطول المباني والمنازل فلا يوجد أسطح
يهرب إليها أحد ليبحثوا عن نجوم السماء. ومن قال لك إن مدينتنا سمحت للنجوم
بالظهور ليلًا أصلًا؟
في مدينتنا يظهر القمر بعد عناءٍ
وأحيانًا كثيرة يكون قريبًا مخيفًا وله لونٌ كما لو كان به إعياء شديد، لونٌ مائلٌ
إلى البرتقالي تمامًا كلون الشفق قبل رحيل الشمس، قمرٌ أضفت عليه مدينتنا طابعًا
حزينًا حزنًا غير متناهٍ بعد أن أخفت من حوله وتركته مركز اهتمام أحزان الجميع
وأطلال كل من كانوا هنا. وأحيانًا عندما يظهر بلونٍ صافٍ من الحزن يكون بعيدًا
شديد البُعد وكأن المسافة بيننا كلما زادت كلما اجتمعت الهموم في هذه المساحة
السحيقة الخالية في الفضاء.
وتعود لنا أحزاننا في اليوم التالي كأن
القمر يسلم الأحزان للشمس فتتخلل أشعتها أرواحنا ولا يُترك لنا إلا ضوءٌ باهت
والكثير الكثير من الأفكار المفرطة، وكم هو محظوظ من ينجو من هذا ببعض التفاؤل
وبابتسامة تشفي كل هذه التفاصيل المميتة.
فلا يبقى لدينا إلا انتظار كلمات
تريحنا أو عبارات تقول لن إننا لسنا وحيدين وليست هذه هي نهاية العالم وأن لكل ما
هو جميلٌ نهاية حتمية لا مفر منها، فيهدأ ما بداخلنا لوقتٍ قصير ثم تمضي الحياة
مرة أخرى. وتظل تمضي ونظل ننتظر ما يريحنا حتى يبدو أننا تعيش حياةً مؤجّلة
ومُسوّفة لا طعم لها.
ننتظر دائمًا شيئًا ما لا ندري ما هو
ولا ندري من أين سيأتي، وننتظر من ينقذنا من أنفسنا ولا ننقذ أحدًا من نفسه ولكننا
لا نعدّها أنانية لأننا أحقّ منهم بالانقاذ ولأننا دائمًا نعاني أكثر من معاناتهم، ولأننا نتحدث عن
ما بداخلنا.
ولكننا لا ندرك أن أكثر من يفضّلون الصمت
هم على الأغلب أكثر من يكابدون.
ولكننا لا نزال أحق منهم ولا نعلم
سببًا لأي من هذا استحقاق.
on حزن, عجز, عن الكتابة
كتابة
في عجز
أردت أن أكتب أول كلمة تسقط على أصابعي ثم تهرب من القلم. أردت أن أتركها تهوى بشكل هستيري حتى وإن لم تصل إلى أوراقي، ولكنني كان يجب أن أتركها. أردت أن أكتب كل شيء. تمنيت للحظة أن تتدافع الكلمات كلها في نفس السطر فيصبح الكلام كله بلا معنى، أو أن تنزلق ويتراكم بعضها فوق بعضٍ فأغمض عيني لمرة منذ زمن طويل فقدت فيه الإحساس بالوقت.
وإذا تساقطت الكلمات كلها لتعبر عن
العجز عن الكتابة، فليكن. فليسقط الحبر كله في أقصى يمين الورقة فتصبح الكلمات
كلها كدماء سالت وتكونت كبقعة كبيرة على حافة الحياة، يجذبها الموت قليلًا قليلًا
كلما كبُرت البقعة أكثر. حتى تفقد الحياة تمامًا، وكأنني لم أكتب شيئًا.
فلتُكتب كلمات مثل الضعف والانحناء
والترهات والحب والخداع والضياع والابتلاء والفقد. فلتتراكم فوق بعضها لتتركني ولو
للحظة واحدة في صمتٍ جاف، في فراغ كونيّ سحيق ليس له أبعاد ولا نهايات. حتى وإن لم
تترك لي شيئًا من متناقضاتها، أحيانًا الأفضل ألا نشعر بشيء على الإطلاق.
فإنني لم أعد أقدر.
لم أعُد أقدر على شيء من هذا ولا ذاك.
لا صمتًا يحمل الكثير من الكلمات ولا كلماتٍ
مجوفة خالية مما نشعر به بالفعل.
لم يعُد بوسعي أن أكتب وأنا أعلم أن
كلماتي كُتبت في مكانٍ ما من قبل، بقلم شخص آخر كان يشعر بما أشعر به الآن. لم
يعُد شعوره أو شعوري بأنني لست وحيدة يعطيني من العزاء ما كنت أحسه من قبل. ثم
إنني لن أقدر على التعبير عمّا عبّر به هو بشكلٍ أفضل مني أو بكلماتٍ تخللت أصابعي
حتى وصلت إلى قلب أفكاري، وآل بي الحال إلى تمزيق أوراقي وقتل كلماتي قتلًا رحيمًا
حتى لا تظل في صراعٍ معي إلى وقتٍ غير معلوم.
ولكنني رغم كل هذا كتبت وظللت أكتب حتى
تسمّرت أصابع يداي على حالها وتوقف القلم عن إهدار حبره في كلماتي. كتبت علّ شيئًا
مما كتبته يتركني أو يطلقني إلى فكرة أخرى تبدأ رحلتها الطويلة في التلذذ في
تعذيبي حتى أنطق بها هي أيضًا في مكانها الصحيح. ومع أنني لم ولن أعرف أبدًا إذا
كنت أطلقت أفكاري في مكانها وزمانها الصحيحين، إلا أنني لا أنكف أكتب وأعافر
للعثور على كلمات دقيقة في معناها حتى تصل إلى قلب القارئ كما لو كان هو الكاتب
وأنا لست إلا فكرة سنحت لنفسها أن تشق طريقًا داخل سلسلة أفكاره.
كم أنّ الكُتّاب مُعذّبون. لا تعبّر
كلماتهم عن نصف ما يجول في داخلهم ولا تصل إلا إلى عدد لا يفوق أصابع يدٍ واحدة من
من يقرأون لهم.
ولكنهم لا ينكفّون عن الكتابة.
I had a moment of wanting to quit everything, of leaving whatever I am going or willing to feel aside and just sit there crouching in my bed doing what is best called the everything of nothing. I wanted to forget, to leave it all, to pretend that the world is not crushing and is soon ending, perhaps even the moment I wake up. Who knows. It was a very short moment, maybe even a split of a second before I awoke and realized I'm not that person anyway. I knew I was soon to give up, and giving up in my case meant standing and doing something. But I felt some kind of a massive headache rush through me, that rendered all my body motionless, as if my blood pressure went suddenly down to my knees, and everything felt so, so heavy. And I was somehow anesthesized unwillingly. I fought it, but it didn't fight me back. It really didn't have to, because that was what it is; some things don't even need to fight you back; you just accept them until they take their turn and then maybe they will leave you soon after you realize you gotta accept that moment to let it pass. I regained my balance, stood next to my books, they looked me in the eyes, and I started weeping, weeping like a child who lost something very precious but to grown-ups it was "childish." Things were too much on me. The heaviness of the world was in these books, and I felt like I could spend God knows how many hours reading them until I can finally feel again. I looked at each one of them, gave them a gentle touch with my fingers, like a pinky promise to come one day. And I left. I left to breathe some air and to accept what has been done to me by myself. I tried to think of moving on but it would only mean running away. And I have no power for running away from everything that keeps haunting me anyway.
I went outside and took a deep breath looking at the sky above me, before I finally closed them and whispered.
It is going to go away some day.
on الخيال, قصة قصيرة, كلمات, موت, هروب
طمس الحقيقة
أحببت ذلك الوقت من اليوم، من الصباح.
ساعة ما بعد موت يومٍ وحياةُ يومٍ آخر. يومٌ جديد لم تتّضح معالِمهُ بعد. اعتدتُ
دائمًا أن أرقُب تلك البداية، كيف ينزوي ظلامٌ حالك ويبهت لونُ السماء ثم يصير
شاحبًا حتى يتلاشى بالكامل، فيظهر بين ذلك الشحوب وبزوغ الشمس لونٌ ثالث. تحسّ أنك
في عالمٍ موازٍ للحظة، ثم تعود إلى الواقع.
توّد أن تظل هناك حتى وقتٍ غير معلوم،
كما لو كنتَ بين الموت والحياة، لأنه التوقيت الوحيد الذي تُصنع فيه القرارات
المصيرية التي تُغيّر مجرى كونك وكينونتك.
جلست هناك، على تلك الصخرة حيث يمكنني
رؤية أشعة الشمس لحظة بزوغها وحيث أستطيع أن أسحب نفسي من أي عالمٍ أنا فيه وأذهب
إلى عالمٍ آخر بملء إرادتي. عالمٌ انتظرت لحظة إعادة إحيائي فيه منذ زمن.
وبدأت أكتب..
كتبتُك في أول الصفحة عُنوانًا بخط
النسخ. ثم توقّفت.
مسحتُ ما كتبته. ترددت لحظة ثم مزّقت
الورقة ووضعتها بجانبي. بدأتُ من جديد.
كتبتُك لا اسمًا ولكن حرفًا بخطٍ عشوائي
في منتصف أعلى الصفحة. عين.
ثم من أول السطر،
"هذه ليست قصة داخل قصة، فكّر ما
شئت، المهم أن تترك للواقع شيئًا ما، فلكل قصة مساحة في الواقع كمساحتها في
الخيال.
اخترت أن أضعك في كلماتٍ لأن الذاكرة
قد لا تسعف مع الوقت، ولأن العُمر قد يُنسي والقلبُ قد ينسى ولكنّ شيئًا ما لا
ينكسر. ذلك الشعور بأن الراحلين موجودون في مكانٍ ما على هذه الأرض، في هذه
المدينة أو في مدنٍ أخرى لا تعلم لها اسمًا ولا تدرك لها مكانًا على الخارطة.
أردتُ أن أكتُبك حتى تمكث قليلًا في
مكانٍ ما، لأنك دائم الترحال حتى وأنت هُنا.
كتبتُك بألوانٍ كثيرة. وبأشعارٍ ليس
لها عدد. كتبتُك من أول القصة، قصّتنا. وعرفتُ أن من يقرأها سيظنّ أنها قصة حبٍ لم
تتكرر من قبل. ثم مزّقتُ كل شيء وبدأتُ من جديد، لعلمي أن الناس لا يدركون من الحب
إلا ما بين رجلٍ وامرأة. نسوا أن الحُب لا يُحدّد بإطار كهذا. نسوا فمزّقتُ أنا
أوراقي لأذكرهم.
ينسى الناس فيذكرهم من ينسون أيضًا، من
يكتبون لكي لا تخدعهم الذاكرة. مثلي
كتبتُك كما لو كنتَ ذلك الليل الحالك،
ذلك الظلام الذي يجب أن يظهر بعد تلاشي
أشعة الشمس وظهور ليلة قمرية بها القليل من السُحب التي تترنّح بجانب ضوء القمر.
ثُم رأيتُك في كلماتي يزداد اللون فيك قتامة ويزداد الألم حِدّة فتوقّفت.
لم أجرؤ على الاستمرار وأنت تزداد
حُزنًا في قصتي.
ولكنني آمنتُ أن للطريق نهاية. فعُدت
إلى حبري الأسود لأُكمِل ما بدأته.
أتردد كثيرًا ثم أعود. أكتُبك بلونٍ
آخر لعلّ الليل يتحوّل إلى نهار، أو إلى شفقٍ برتقالي اللون مائلٌ إلى الحياة. أغيّر
القلم على أملٍ لا جدوى منه أن يتغيّر
لونُك مع كتابتي. إلا أنك تظلّ كما أنت. تظلّ كما عرفتك وجهًا لوجه. لك
شخصية حادّة صارمة لا يغيّرها لا لون قلم ولا قصّة خيالية ذات أبعاد تلاشت في
الواقع.
فاستسلمت لك في قصّتي. تركتُ كلّ شيء
في واقعي واختبأتُ بين كلماتي لأصل إليك كما أنت. ولأتخلص من هذا العالم الواقعي
وأمكث في قصة قد لا تنتهي أبدًا. لا لأنني أريد العيش للأبد، ولكن لأنني أريد
الموت في قصة. ميتة غير عادية، غير واقعية. ميتة تقتل بغموضها.
تركت حبري وقلمي وغرقت داخل أوراقي.
تركت كلّ شيء لتحرّكه الرياح. وتبدأ قصتنا من جديد من حيث لا أدري.
لتكتبها أنت بألوانك، وأنسى أنا من
أنا."
on حزن, عجز, قصة قصيرة, موت, هروب
بداية
الموت
فلنبدأ القصة من النهاية. من الوراء.
لنبدأ من الموت إذًا.
ذلك الشيء الغامض الذي نحاول اختراع
جميع آلات الزمن من أجله، من أجل اكتشاف لغزه وحلّ طلاسمه. ونتعامل معه فقط كلغزٍ
آخر من ألغاز الحياة التي يجب علينا اكتشافها، لا كشيء مبهم لن يُكتب لنا معرفته
إلا إذا أخذَنا إليه بوعدٍ نقطعه بعدم العودة، شئنا أم أبيْنا.
لنبدأ القصة من الداخل. من تلك الآلام
الحادة التي تتخلل الجسد المهترئ الهزيل الذي لا يقوى على قتالها ومقاومتها.
يستسلم لها بملء إرادته وبدون إصرار. بسلام الأرض التي تخلو من الحياة.
ذلك الجسد الذي خانته الذاكرة ووهن
العظم منه فعجز عن الحراك ثم سقط على فراش يشبه فراش الموت، ولكنه ليس فراش الموت
بعد. هناك متّسع من الوقت ليصارع تلك الذاكرة. هناك بصيص من الأمل أن تأتيه لحظة
من الماضي بكامل أبعادها وشخصياتها فيتسنّى له أن يبتسم ابتسامة أخيرة لن تكون
جزءً من الحاضر، فقط فتاتًا من الماضي الذي سيكون هو الآخر جزءً منه قريبًا.
ذلك الجسد الذي اشتعل فيه الرأس شيبًا
وهو يمضي ليبحث عن وجوه باتت في عداد النسيان. عن وجوه ملأت قلبه بالحياة في أحلك
لحظات الموت. عن وجوهٍ كانت بها من كلمات عجزت البشرية عن تجميعها في قواميس
لاستخدامها لمن هم في أمسّ الحاجة إليها مثله، لهؤلاء الذين سيحتاجونها ولن يشعر
بهم أحد.
ثم لنذهبّ بالذاكرة إلى أبعد من ذلك
بقليل. لنذهب إلى حيث تتّضح الرؤية قليلًا ويمكن للشفاه أن تتحرك لتقول كلمات
معدودة كـ"كم هي قصيرة أعمارنا، وكم هو قاسٍ هذا الموت الذي دائمًا ما نظنّه
بعيدًا خطوتين عنّا لنتظاهر بأننا قادرين على الاستعداد له، ولا يزال لدينا متّسع
من الوقت لتصحيح أخطائنا".
لنذهب إلى حيث لا يزال لدينا متّسع من
الوقت بينما نحن على غير وعيٍ به، إلى حيث تأتينا الفرصة وراء الأخرى ونتركها تكاسلًا
أو تعمّدًا بينما تتردد "ليس الآن" على لساننا بشكلٍ اعتدناه حتى أصبحنا
نلفظه تلقائيًا وبلا وعي منّا. فننسى فكرة الموت وننسى أن هدف الحياة ليس الحياة
ولكن ما يتجاوزها.
ثم لننتقل إلى نقطة التحوّل في حياتنا.
تلك النقطة التي تستقر عند لقاء الحبيب أو عند العثور على حلم يتكوّن في الواقع
فيفضي علينا بسعادة لم نعهدها من قبل. فتتحول ألوان الحياة إلى درجات لم تكن
موجودة من قبل أو لم تلحظها العين الحزينة والروح المعتمة. ويخيّل لنا أن شمس
الصباح التي تخترق زجاج نوافذنا قد انقسمت وافترقت إلى شموس صغيرة تضيء جميع
الأماكن المعتمة على هذه الأرض.
لنعُدْ بالزمن إلى الوراء أكثر. إلى
أيام الشباب والرعونة. إلى حيث تكبر أمامنا الأحلام التي لا زالت صعبة المنال،
وتتهالك الأفكار البسيطة الـ"ـعادية" وتُستبدل بأفكار مجنونة طائشة
ولكنها مفعمة بالحياة. أفكار تصنع من صاحبها مخبولًا يريد أن يحتلّ العالم ليسيطر
عليه بمعتقداتٍ يملؤها الفنّ، ذلك الفن الذي يصل بصاحبه إلى حافة الجنون.
وبعدُ فلنرتحل إلى عالمٍ مليء بألوان
الطفولة. بكلمات ليس لها معنى ولكنها تحمل صدقًا ينساه العالم مع تقدّم العمر، ويتناساه
الشيوخ إذ هرِموا وماتت لديهم معانٍ كثيرة لم تعُد تُشكّل الحياة. لننزلق من هذا
الواقع المؤلم ونعود بالذاكرة إلى حيث تُسعفنا الذاكرة. إلى حيث نستمع إلى عبارات
عفوية وبكاء أقسى أسبابه إضاعة لعبة الطفولة المفضلة.
لننسحِب من هذا العالم بهدوء الرضيع
على صدر أمه، أو بهدوء الجنين في بطنها. لننسحب دون أن يشعر بنا أحد ودون أن تنهال
الدموع على قبورنا. لنمضي في سلام قبل أن نزعج الأحياء الذين يصارعون حتى لا
يرحلوا يوميًا معنا وهم يتنفسون نفس الهواء الذي تنفسناه ويمشون في الشوارع ذاتها
التي مضينا فيها.
لننسحب كالأطفال على فراش الموتى.
لننسلّ إلى ذلك العالم الآخر أطفالًا في أجساد شيوخ.
ولكن لنترك قليلًا من الذاكرة لهذا
العالم الكئيب.
لنترك قصة تنتهي من مستهلّها.
وصية الفقد
(الوصية الأخيرة)
ولدي الحبيب،
ليست هذه وصية الفقد لأنها الأخيرة، ولكن لأن البكاء هو
قمة كل الأحزان وبعدها تستقرّ جميعها في مكانٍ ما في قلبك، بهدوء لم ترَهُ قبل هذا
الانهيار. لن تنسى ولكنك ستتناسى لأن الحياة، وكما ستسمع منهم كثيرًا، تمضي
وستمضي ولن تنتظرك حتى تُنهي حدادك على من فقدت وتفقد.
ليس شرطًا وجود أشخاص مع ذكر كلمة الفقد، فهناك من
يفقد شيئًا بداخله، هناك من يفقد روحه ولا
يعثر عليها مجددًا. هناك من يفقد فنًا انزلق من أصابعه دون أن يشعر وتحولت حياته
إلى مجرد دقات عقارب ساعة تمضي ليحيا دون ألوان ولا موسيقى، كفيلم داخل كاميرا
قديمة مشوشة يكاد يُسمع فيها صوت الممثلون.
الفقد رغم آلامه يحيي فينا شيئًا ما. تتضارب الكلمات
وتتناقض ولكن الزمن يثبت أن التناقض هو جزءٌ من الحياة، وجزءٌ منّا.
*****
"ثم، من قال إن عدم البكاء رجولة؟"
ستسمع يا ولدي من يسخر من رجالٍ يبكون. ستسمع من يستهزئ
برجلٍ بكى لفقده شيء كان عزيزًا عليه، لشعوره بلحظة وهن وضعف شديدين لم يتحمّل
فيها جموده المعتاد وإذا بالدموع تتساقط على خدّيه، وإذا به يجهش بالبكاء كالطفل
الذي لم يعثر على أمه وسط طريق مُعبّد بالبشر. وإذا به يتوارى عن الأنظار مخافة أن
يتّهمه الآخرون بالضعف وقلة الحيلة والاستسلام للدموع كطفل أو كامرأة. سيتساقط التماسك
والقوة والشجاعة ويستقر كلُ شيء عند شفتيه ليبتلعهم وينسى أنه احتمل هذا كله طيلة
حياته وجاءت لحظة انهيار الجبل الجليدي، وقتئذٍ فقط لن يوقفهُ أحد رغم كل
الاستهزاءات والضحكات المكتومة.
دعهم يستهزءون يا ولدي. دعهم يسخرون من رجلٍ اختار أن
يكسر مقولة كاذبة تدّعي أن عدم البكاء رجولة وقوة، أن الرجولة إن استسلمت لدموع
الفقد انسحبت من جسد الرجل.
ابكِ على صدر من تُحب. ابكِ حتى تنهار كل قواك وينزلق كل
ما أحسست به في يومٍ من الأيام، ليستقر عند صدر من تحب، ليحفظهُ لك عنده حتى تعود
كما كنت من قبل. ابكِ حتى تعجز عن الحديث وعن النوم من كثرة الآلام ومن فرط
الإرهاق في عينيك. اجزع ولا تخف من اتهامات وادّعاءات لن تفيدك فيمن فقدت وفيما
فقدت. ابكِ حتى تجفّ عيناك وتبتلع شفتاك كل شعورٍ شعرت به مذ نفخ ربي وربك فيك من
روحه.
لا بأس إن لم تمتلك نفسك بعدما ضاقت عليك الأرض بما رحبت.
لا بأس في شيءٍ من السقوط، أو في جبلٍ من الحزن حتى تعود من جديد. حتى تعود بعد
موتي من جديد.
فسأفقدك وتفقدني، ولكن الملتقى ليس ببعيد.
ابكِ يا ولدي.
وصية الحزن
ولدي،
يومًا ما،
وبدون سابق إنذار، ستحزن يا ولدي. ستحزن وستعجز عن الحديث عن سبب حزنك، وستعجز عن
معرفة سبب حزنك أحيانًا كثيرة. سيظن الناس منك غرورًا أو غطرسة أو تكبُّر. دعهم يا
ولدي، فالناس يتحدثون، وسيتحدثون إن قلت أم لم تتفوه بكلمة.
ستحزن لأيام،
ربما لساعات فقط، وربما يمتدّ الحزن لليالٍ لا تنتهي فتنسى أنك حزين أو تتناسى
فتنسى ثم تغضب وتتراكم داخلك الكلمات فتمتلئ بالجهل بأن السبب الأول لكل هذا يا
ولدي هو حزنك.
ستتجاهله
أحيانًا، ثم سيصحبك أحيانًا أخرى مطالبًا إياك بالجلوس معه والحديث عن طريقة تُحرركما
معًا، أو تُطلقكما إلى مكانٍ آخر بعيد، كلٌ على حِده. اجلس يا ولدي وكأنك تخاطب
شخصًا يحمل حنقًا لا متناهيًا تجاهك. اجلس وتحدث وتشاجر مع حزنك. ارهقه ودعهُ
يرهقك. استنزفه بل واطلق له العنان لاستنزافك وابتلاعك. دعه يكسر كل فكرة من
أفكارك بل ويمزقها قطعًا صغيرة فيضطرك إلى تجميع أفكارك المبعثرة، على الأرض التي
ستمتلئ بالحزن، وإصلاحها مرة أخرى كما لو كانت قطعًا لصورة ما أو أحجية لن تبدو
كما هي مع خطأٍ واحد فقط.
إياك أن
تستسلم للمعركة أو تدفن حزنك في مكانٍ ما مع شخصٍ ما حتى وإن كان هذا الشخص صندوق
تلقمه أسرارك وتنسى ما تحكيه له من فرط ثقتك.
احزن يا ولدي.
احزن بأشد ما استطعت من الصخب ولا تترك هدوءً داخلك يدفعك للجنون قبل أن تستنزف كل
ما بداخلك وتمتلئ بيقينٍ فيما بعد بعودتك إلى نفسك، عُد إلى هدوئك المعبأ
بالطمأنينة. اسكن داخلك في سكون شديد.
ثم ربِّت على
كتفيك وأنت مغمض العينين. وابتسم ابتسامة أخيرة.
ثم..
"افرح
بأقصى ما استطعت من الهدوء، لأن موتًا طائشًا ضلّ الطريق إليكْ"
وصية
الهرب
ولدي،
قد تتعجب من كتابتي لهذي الوصايا،
واحدة تلو الأخرى بأسلوب فيه من الإسهاب ما قد يملأك بالضجر والملل. ولكن الكلمات
تُنسى والأفعال تُنسى وحتى الوعود تُنسى وتقتلعها الحياة من جذورها.
أريد منك يا ولدي أن تهرب كلما عجزت
روحك عن التعايش مع كآبة الدنيا، اهرب من كل شيء في شيء واحد. اهرب من الحزن
والبغض وخيبة الأمل والخذلان. اهرب من الأفكار المخيفة والأحلام المؤرقة. اهرب من
نفسك.
اهرب إلى كاتبك المفضل، إلى كتابك
المفضل، إلى كلماتٍ لم تستطع كتابتها فكتبها لك شخصٌ آخر في مكانٍ آخر في هذا
العالم. شخص قد لا تجمعك به الأقدار وقد لا تعرفه معرفة شخصية طالما حييت ولكن
تربطك به صداقة افتراضية غريبة داخل كلماته وعباراته التي عرف بها أن يتقرب إليك
بشكلٍ لم يتمكن منه أحد.
اقرأ الكلمات بعناية، واقرأ الصفحات
بتأنٍ شديد كما لو كنت تتحدث مع نفسك لحلّ مشكلة ما. اقرأ يا ولدي حتى تنسى كما
ينسى السكير أحزانه بالخمر. قرّب الكتاب من وجهك واسمح لنفسك بتنفس رائحة صفحاته
التي لن يتمتع بعبيرها إلا من يغرق في الكلمات ويستمتع بهذا الإحساس بالابتلاع
السحيق. اسمح للكتب أن تبتلعك لتدخل في كلماتها وتتقمص الشخصيات داخلها وتنسى من
أنت أو تتناسى فتنسى كينونتك وأي وجهة أنت موليها.
عش شخصيتك المفضلة من رواية قريبة إلى
قلبك، عشها في واقعك، خذ شيئًا من الخيال وافرضه على الواقع حتى يهيأ للعالم من
حولك أنها شخصية حقيقية مدفونة في مكانٍ ما وقد قررتَ أنت إعادة إحيائها من تلقاء نفسك.
اخدع الناس الخداع الجميل الذي ينسيهم الواقع أو يشتّتهم بين واقعٍ كئيب وخيال
ساحر فيختاروا الخيال علّه يصبح واقعًا ينسيهم حزنًا ما أو يأخذ بأيديهم هربًا من
عاصفة ما.
ثم انثر كلمات الكتاب في الاتجاهات
الأربعة لترى كلماتٍ وصفحات في شرقك مع طلوع الشمس وترى فصلًا آخر من الرواية مع
غروبها، ثم وأنت تسير في الطرقات التي لا تعرفها لتخفف من وطئة الغربة وتكون لك
صاحبًا لا يملّ من أحاديثك اليومية.
اهرب يا ولدي من كلماتك إلى كلمات
غيرك، فهي أفضل وسيلة للتخفيف عن هموم الدنيا، ولكن القلة، مع الأسف، يدركون هذا.
فدعهم يستهزئون. دعهم يضحكون مما تعيش فيه من خيالات. ثم اتركهم في حيرة من واقع كئيب
لا هروب منه.
فستضحك ويبكون.
ثم تقرأ مجددًا.
on أفكار, الخيال, عربي, نثريات, وصايا
وصية الغرق
ولدي،
أريدك يا ولدي أن تغرق في هذه الدنيا
بالمعنى الذي يحسدك عليه من هو على السطح لا تستطيع قدماه لمس القاع ويعجز عن
التقوقع للمس حافته بأي وجه من الوجوه. أريدك أن تغرق في أفكارك، تغرق في ألوانك،
تغرق في الهواء المحيط بك. تنفس يا ولدي بأقصى ما تستطيع حتى وإن لم تعطِك المدينة
الموحشة الهواء النقي الذي تستحقه. تنفس حتى تعجز رئتاك عن تحمل المزيد من الهواء،
ثم تنهّد تنهيدة من لم تسعفه روحه بالبوح عن أسرار نفسه وأسرار الدنيا داخله
لإنسان، أَخرِج أسرارك للدنيا لتمتزج مع أسرار الآخرين في الهواء المحيط بك،
فتعطيك إحساسًا بنوعٍ غريب من الأمنة والسكينة.
اغرق في أفكارك التي ستصيبك بالجنون
إذا تركتها شريدة، اغرق ولا تسحبها معك مرة أخرى. اتركها حيث غرقتَ معها. فكرة تلو
فكرة. واحدة وراء الأخرى. ولكن لا تُزهِق روحك بالإفراط في التفكير فتعجز عن
التخلص منها وتتوه في متاهات لا متناهية تخنقك وتسحقك فتموت عالقًا في فكرة غير
مستحقة.
اغرق يا ولدي في ألوان الحياة بدرجاتها
المختلفة. اغرق في اليوم الواحد في لونٍ واحد بجميع درجاته، حتى تصبح في الصباح
بلون بهجة وفي المساء بأقصى درجات اللون سوادًا وقتامة. حتى تصبح يا ولدي شقيق
الجنون أو ما يُشتقّ من الجنون. عِش في الألوان وكأنها تُشكّل أيامك منذ أن تستيقظ
في الصباح الباكر مع ندى الفجر حتى تغفو على سطح بيتك وأنت تشاهد النجوم والشُهُب.
تنفّسها. اكتب بها أو ارسمها. اخترع ألوانًا جديدة لم يرها إنسان وبعثِر درجاتها في الهواء المحيط حتى يشعر بها من لا
يرى الألوان من أعمى البصر وأعمى الجمال. فأكفَّاء الجمال كُثُر يا ولدي. هم لا
يرون الدنيا كما تراها. التمس لهم العذر أيضًا لأنهم لم يصلوا إلى القاع الذي
استطعت أنت الوصول إليه.
التمس لأكفَّاء الحياة أيضًا عذرًا،
فهم يعيشون بين جمال وجمال ولا يرون إلا القُبح الذي قد يعكس ما في روحهم ما عجزت
المرايا عن عكسه. التمس للموتى داخل أفكارهم عذرًا مضاعفًا لأنهم يا ولدي ضعيفون
من الداخل أكثر منك ومنّي ومن أي مخلوقٍ آخر.
التمس العذر لكل من هم حولك، ولكن إياك
إياك يا ولدي أن يعجبك موقعهم وتلبث في قمة ترى فيها جميع من تلقى وتنسى أن
تغرق في الأعماق. وتنسى الألوان المجنونة والأفكار المختلفة والكلمات الممتلئة.
هذه الوصايا مستوحاة من رواية "سوناتا لأشباح القدس" للكاتب الجزائري واسيني الأعرج.
وصية العجز
ولدي،
أَعلمُ أن الدنيا لم
تعطِني حبًا بعد لأُفرغ فيه كينونتي وآتي بك إلى هذه الدنيا ولكنني أردت أن أكتب
لك ما قد أعجز عن كتابته والبوح لك به عندما نلتقي للوهلة الأولى ونكبر سويًا ونحن
لا نشعر.
اعلم يا ولدي أن حمول
هذه الدنيا على كتفيك ستكون أحيانًا خفيفة الظل رشيقة تكاد لا تشعر بها، وأن
الكلمات والعبارات والعواطف ستساعدك أحيانًا كثيرة حينما تكون في حاجة إليها.
اعلم أنها ستفي بوعدها
كما أوفت بوعدها من قبل، ولكن اعلم أيضًا يا ولدي أن الوفاء بالوعد لا يستمر
للأبدية، وأن سلسلة المشاق والمتاعب هنا لن تكون دائمًا على نفس النهج بحيث تجد ما
تريد البوح به في كلمات بسيطة أو عبارات خفيفة ذات معنى. ليس هذا ما يحدث مع الزمن
وما يسلبه منّا ومع اختلاف الكلمات وعمقها من فينة إلى أخرى.
ستأتي عليك يا ولدي
أيامٌ لن تفهم فيها عجزك عن النطق أو التعبير بشيء من العاطفة والحنوّ. ستجد
الكلمات تخدلك والعبارات تهرب منك مخافة أن تضعها في مكانها الخاطئ، ستجد أن
الخذلان تزداد حدّته يومًا بعد يومٍ من كلماتك مرة ومن من هم حولك مرة أخرى.
أرجوك ألا تجزع ولا
تفزع، فهي سنة النضوج.. لن يسعفك ما بداخلك كما كان من قبل.
أوصيك يا ولدي في هذه
الأوقات بلمس مفاتيح بيانو مغلق والعزف عليه برفق في لحظات حزنك أو بغضب في لحظات
فقدانك لعقلانيتك. أريدك أن تترك مفاتيحه تتفوّه لك بكل ما عجزت عن البوح به أو
التعبير عنه، ستجد الكلمات تتناثر بين يديك وتطير بخفة ورشاقة أمام عينيك لتعطيك
ما لم يعطه لك أحد. دع الآلة تنطق بما عجز البشر عن النطق به وستجد فيها وفاءً لكل
الوعود التي جزعت منها وآلمتك حتى الصمت الموحش.
أوصيك بألا تتركها بلا
عودة. اترك الغبار والتراب ينهالان عليها إذا لم تحتاجها ولكن عُد لها في وقتٍ ما.
وعُد لها في وقت فرح قبل وقت حزن وعجز ، حتى لا تعذّبها بكلماتك الكئيبة الحزينة
فقط. بُح لها بكل ما تستطيع من فرح وحزن وألم وتحمس واشتياق وجنون وحب ولهفة. احكِ
لها عنك وعنّي وعنّا معًا وعن الدنيا وعن الأحبة والذين فارقوك وعن كل ما يجول
بخاطرك. لا تتردد.
فالتردد يا ولدي يأتي
لتنهار معه كل نغمة رقيقة عزفتها يداك. اعزف يا ولدي بلا توقف وتذكر، ليس كل ما
يبعث الطمأنينة يتنفس كالبشر. تنفّس أنت كبيانو ودع البشر يتنفسون للعيش لا أكثر.
تيه
بُحتُ لكَ بما لم أبُح بهِ لنفسي من قبل، فوجدتُ
في ما لم أجده ولا أرهُ أبدًا، وكأنني عشت طوال هذا العمر في جسد لا هو لي ولا
منّي، وكأنني المنفيّ في جسدٍ لم أعرفه من قبل. ثم رأيت على وجهك تعبيراتٍ غريبة
عليّ وكأن ما بداخلي قد أعطى انعكاسه على وجهك وشفتيك اللتان قد ضممتهما فوق بعضٍ
ورفضتَ الحديث عنّي، عن تلك التي رأيتها بداخلي ولم أرها أنا بنفسي.
ثم تساءلتُ وسألتُ نفسي ثم سألتُك "هل
يُعقل أن تبوح لأحدٍ بأمور لم تكن أنت تعلمها وهي بداخلك؟ هل لك أن تنظر إلى شخصٍ
فتعلم في حينها أنك ستتفوّه بعبارات ومعانٍ لم تعملها في نفسك من قبل؟"
ثم آملُ ألا تجيبني إجابة فيها كلمة
"حب" إذ إني سئمتُ ابتذال الكلمة. أنتظر إجابة تُعجِزني عن الحديث
فلا يوجد ما أبوح لك به وما أبوح به لنفسي.
ولكنني لا أجِدُ منكَ إلا الصمت السحيق، الصمت
الأبديّ الذي يحرقني ويسحقني من الداخل فأرى وجهك يتغيّر فيه التعبير من ألم إلى
أنين إلى انهيار في لمح البصر.
فأرحل وأمضي، علّني أجد غير الصمت المفجع. علّني
أعالج صمتي بصمت الآخرين. يومًا ما.
رسالة إلى مـ
عزيزي مـ..
أكتب لك بكلمات مرتجفة
خالية من السكينة والطمأنينة. تقاذفتنا الأيام حتى وصلت بنا إلى حافة الهاوية ثم
تركتنا معلقين هناك، بين المكان واللامكان. ونهضت هي لتعيد كرّتها في غيرنا منتظرة
منّا اعتياد هذه البينيّة أو اللاكينونة.
اعتدتُ يا صديقي أن
أعيش تحت أسقفٍ بلا رحمة، تهددنا بالانهيار بين الفينة والأخرى، وكأن لي بيتًا من
ورق مقوّى أو من الدومينو التي تقع جميعها حالما تقع واحدة منها. اعتدت أن أغطّ في
سبات عميق ولكن بنفس هذه المآسي ووجدت نفس هذه الكلمات المرتجفة أو شبيهتها في حلم
من الأحلام، إن لم تكن في جميعها. ثم يحدث أن أستيقظ فأرى الحلم في الحقيقة فأفقد
الإحساس بأنني كنت نائمًا في المقام الأول.
أريد أن أحكي لك عن
الوطن، أو عن اللاوطن، عن مساحة من الأرض وُلدتَ فيها وأمضيت طفولتك في شوارعها
وأحيائها ظانًّا منك أن الطمأنينة تعتريها وأن الأهل يحمونها وتحميهم، أن شوارعها
تحتضنك بحنان الأم التي مات أطفالها فتبنّت جميع أطفال الشارع. أريد أن أخبرك عن
سماء لم تنعم بالصفاء ولو لليلة واحدة منذ رأيت نورها، فقد ظلت دائمًا مليئة
بالحزن وبالفراغ السحيق وخالية من النجوم والنيازك والشهب. وحيدة شريدة تبحث
لنفسها عن مفرّ من هذه الأرض الشريدة، من هذا الوطن الجريح الذليل. تبحث عن مخرج
ما.
الفرق بيننا يا صديقي
بيتٌ من ورق وخيمة من قماش، تعددت المسميات والمعنى واحد، والشعور واحد، والأسى
واحد.
يحسدنا من له وطن نفاه
أو من ليس له وطن، ولكن الوطن بذاته منفى أحيانًا، ووجودك فيه هو أقصى درجات
"اللاوطن" وأقصى حالات النفي، يقولون لك مواطن ولكنك لست إلا منفيّ
يلبسونه قناع المواطن ويرغمونه على تصديق الكذبة التي اخترعوها، وأحيانًا تكون أنت
من اخترعها وصدّقها كي ينسى، أو كي لا يفكر مرتين.
لا فرق بيننا يا صديقي،
الأرض تنفينا جسديًا أو نفسيًا، فلا تأسى ولا تترك الأمل يتبدد وينهار داخلك فتخور
قواك في لمح البصر. اترك المسميات واستمع إلى كلماتٍ قد تشعرك في يومٍ ما أن
انعدام الوطن أهون من نفيه لك بدون ذنب اقترفته غير أنك تنفست من هوائه واستلقيت
على ترابه وستموت تحته.
لعل هذه الرسائل ومثلها
من غيري تعطيك شيئًا من الصبر.
ألقاك في وطنٍ قد نصنعه معًا يومًا.
نزيف كلمات
وما أنا غير كلماتٍ
مبعثرة
مشتتة
تنتظر حبر قلمك الذي
لا يزال يجفّ
وأنا أنزف
وأنزف
وأنزف ..
كتابٌ فارغ
الحياةُ كُلّها ترهات بدونك
بدون كلماتك
وبصمتك
وكأنها كِتابٌ فارغٌ من الحروف
خالٍ من النغمات والتخيُّلات
ولكن بغِلافٍ ساحر ..
تراكُم
تتراكم الكلمات في حلقي
وتتزاحم
ثم يأكلني الإحباط
فأطبق أسناني لأقتل هذي الكلمات
وأصمُتْ
فلا جدوى ..